عنوان هذا الفصل: مكائد المنافقين وحديث الإفك
بعد ستة أشهر من غزوة الأحزاب، قاد النبي صلى الله عليه وسلم حملات عسكرية صغيرة لتأكيد قدرة الدولة المسلمة على الدفاع عن نفسها، وتحذير القبائل المعادية من مغبة التفكير في عدوان جديد على المدينة المنورة. في هذا السياق، جاءت غزوته لبني لحيان الذين غدروا من قبل بخبيب بن عدي وأصحابه من الدعاة المسلمين، لكن الغزوة انتهت من دون قتال بسبب فرار بني لحيان من ديارهم وتحصنهم في رؤوس الجبال.
ثم تجرأ قائد مشرك من قبيلة غطفان على الهجوم على أطراف المدينة، وهو عيينة بن حصن بن حذيفة، ومعه عدة فرسان من قبيلة غطفان. وتمكن الجيش المهاجم من السيطرة على قطيع من إبل المسلمين والعودة به معهم. وبلغ الخبر إلى المدينة، فقاد النبي صلى الله عليه وسلم حملة سميت بغزوة ذي قرد، وهو اسم جبل في أطراف المدينة المنورة، واستطاع المسلمون استرداد بعض إبلهم وليس كلها، واستشهد منهم اثنان في مناوشات صغيرة مع أصحاب عيينة بن حصن. وأقام النبي صلى الله عليه وسلم يوما وليلة في هذا الجبل ثم عاد، من دون أن يحصل قتال مباشر بين جيشه وبين الجيش المغير الذي فر راجعا إلى غطفان.
تدل غارة فرسان غطفان على المدينة المنورة مرة أخرى لكل من بقي عنده شك على أن الدولة الإسلامية في المدينة المنورة كانت مستهدفة عسكريا، ويراد اسقاطها وتصفيتها من خصوم كثيرين، وأنه لم يكن هناك أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المؤمنين بالله خيار آخر لرد هذا الإستهداف والكيد والمكر إلا بالدفاع عن النفس والإستعداد للتضحية في ميادين القتال من أجل الإيمان والحرية.
وقد أغرت غارة فرسان غطفان أعداء آخرين على التحرش بالمسلمين، وكان ممن فكر في العدوان على المدينة المنورة وأهلها بنو المصطلق، بزعامة الحارث بن أبي ضرار. فلما بلغ الخبر عن نياتهم العدوانية إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قاد جيشه واتجه إليهم، وواجههم قرب نقطة ماء تسمى المريسيع على ساحل البحر الأحمر، وهناك وقعت الحرب بين الطرفين، وانتهت بانتصار المسلمين، ومقتل العديد ممن خطط للعدوان على المدينة من مشركي بني المصطلق، وأسر عدد كبير منهم.
تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عقب هذه الغزوة من جويرية بن الحارث بن أبي ضرار زعيم بني المصطلق، فلما سمع المسلمون بزواجه منها استحوا أن يحتفظوا بأسرى معركتهم مع بني المصطلق، لأنهم غدوا أصهار النبي صلى الله عليه وسلم، فأطلقوا سراحهم وكانوا أكثر من مائة، حتى قالت عائشة أم المؤمنين: ما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها، في إشارة إلى جويرية أم المؤمنين.
لم تكن غزوة بني المصطلق حدثا عسكريا كبيرا في التاريخ، لكن حادثتين جرتا على هامشها بقيتا محفوظتين في ذاكرة المسلمين ونزل فيهما قرآن كريم من السماء.
عبد الله بن أبي يحاول إشعال الفتنة
تتعلق الحادثة الأولى بمحاولة خطيرة لإيقاع الفتنة بين المهاجرين والأنصار. وفي التفاصيل أن الناس تواردوا على منبع للماء بعد انتهاء الحرب ضد بني المصطلق، فازدحم جهجاه بن مسعود من المهاجرين، وكان يقود فرس عمر بن الخطاب، وسنان بن وبر الجهني من الأنصار، حليف بني عوف بن الخزرج على الماء، وتطور الأمر بينهما بسرعة إلى اقتتال. صرخ الجهني في لحظة الغضب والصراع: يا معشر الأنصار، وهتف جهجاه مستجيرا: يا معشر المهاجرين، وأوشك الصحابيان الذان استسلما لنوازع لحظة غضب عابرة أن يثيرا معركة داخلية مدمرة في صفوف المسلمين. لكن بقية الصحابة من المهاجرين والأنصار لم يستجيبوا لهما ولم تحصل فتنة ولا قتال.
لم تقم حرب بين إخوة العقيدة، لكن الشجار الذي حصل بين الرجلين كان مناسبة استغلها زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول للتعبير عما يكنه في نفسه من كراهية للمسلمين ولإشاعة الفتنة وروح الإنقسام بينهم من جديد. ورد ذلك في تعليق خطير أدلى به الرجل أمام حشد من الناس كانوا حاضرين عنده. قال: أو قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا. والله ما أعدنا وجلابيب قريش (يعني المهاجرين، وهو يستخدم هنا لفظا وصفت به قريش من هاجر من المسلمين إلى المدينة) إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
ثم صعّـد عبد الله بن أبي من حدة خطابه وحاول إشعال الفتنة بشكل صريح لا شبهة فيه، وتوجه بكلامه لعدد من الأنصار: ما فعلتم بأنفسكم: أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم؟ أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.
كان ممن حضر هذا المجلس صحابي مشهور اسمه زيد بن أرقم رضي الله عنه، وقد كان يومئذ شابا صغير السن، فمضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقص عليه الخبر.
سمع القصة عمر بن الخطاب، وقد كان حاضرا في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب وانفعل مما نقله زيد واقترح قتل عبد الله بن أبي، لكن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه قائلا: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه! لا ولكن أذّن بالرحيل. (1)
أراد النبي صلى الله عليه وسلم وأد الفتنة في مهدها فأمر بأن يتحرك الجيش فورا ويعود إلى المدينة المنورة، وذلك في ساعة لم تكن عادته أن يرتحل فيها. وجاء عبد الله بن أبي فأنكر صحة ما نسب إليه من أقوال وحلف بالله على ذلك. وشعر بعض الأنصار بالشفقة على ابن أبي، احتراما لمكانته السابقة فيهم، فقالوا: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام (أي زيد بن أرقم) قد أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال.
وفي طريق العودة، جاء أسيد بن حضير، من زعماء الأنصار، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسأله: يا نبي الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: عبد الله بن أبي. قال: وما قال: قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال: فأنت يا رسول الله تخرجه منها إن شئت. هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا. (2)
ومضى النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه عائدا إلى المدينة في حركة لا تتوقف لأكثر من أربع وعشرين ساعة حتى أصيب الناس بالتعب والإجهاد، فلما توقف بهم في فترة استراحة استغرق أكثرهم في نوم عميق، وكان هدف النبي صلى الله عليه وسلم أن يشغل الناس عن الحديث حول قصة عبد الله بن أبي، لأنها مشبعة بروح الفتنة والتآمر.
قبل التحرك، حذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من الإنسياق وراء دواعي الغضب والفرقة، وقال معلقا هتاف الجهني “يا للأنصار”، وهتاف الجهجاه “يا للمهاجرين”: “دعوها فإنها منتنة” (3)، أي: أعرضوا عن كل نداء للتحزب والولاء للعصبيات التي تشق جمع المؤمنين، لأن الإنسان العاقل المتعلم الذي يحترم نفسه إنما يجعل ولاءه لفكرة نبيلة يؤمن بها، وقيم سامية عظيمة يعمل من أجلها، ولا يعطل عقله من أجل نداء قبلي يحرض على الفتنة، كما كانت كثير من القبائل العربية تفعل قبل الإسلام وتدمر بعضها بعضا في حروب قبلية عبثية لا طائل من ورائها.
كان ممن واكب تطورات هذه الأزمة وسمع نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، وهو شاب ثقة، مؤمن بالإسلام محب للنبي صلى الله عليه وسلم، وغير راض عن سلوك أبيه. جاء عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه. فإن كنت لابد فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني. وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر، فأدخل النار.
تحدث الشاب المؤمن بصراحة كبيرة عن ملابسات القضية، وعبر أيضا عن انحيازه الكامل لمبادئه على حساب علاقته بأبيه، فجاءه الجواب الكريم من صاحب الخلق الكريم. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا. (4)
ونزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، فيه آيات بينات عما جرى، ونصائح غالية للمؤمنين جميعا بألا يشغلهم أمر من أمور الدنيا عن ذكر الله وطاعته ومحبته:
“هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، ولله خزائن السماوات والأرض. ولكن المنافقين لا يفقهون. يقولون لئن رجعنا المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. ولكن المنافقين لا يعلمون. يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله. ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون. وأنفقوا من ما رزقناكم، من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب، فأصدق وأكن من الصالحين. ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها، والله خبير بما تعملون”. (المنافقون: 7-11)
حديث الإفك
تلك كانت تفاصيل الحادثة الخطيرة الأولى التي وقعت على هامش غزوة بني المصطلق واستهدفت وحدة الصف المسلم. أما الحادثة الثانية فقد استهدفت عرض النبي صلى الله عليه وسلم وزوجته السيدة عائشة بنت أبي بكر أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أبيها.
تورط في هذا الموضوع بعض المسلمين، بأن اتهموا عائشة في عرضها، وقد كان اتهاما باطلا وشنيعا ومن أسوأ وأشنع ما يتهم به بيت من بيوت العرب. كان ممن أشاع هذا الخبر الكاذب الملفق مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش. وتلقف الخبر عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين وسعى في ترويجه. لكن هذه المكيدة الجديدة بارت وحبطت في النهاية، وثبت بطلانها، ونزل الوحي ببراءة أم المؤمنين، واطمأنت نفوس المؤمنين، وبقيت الحادثة عبرة للمعتبرين، ودرسا في أهمية تحصين الأسرة المسلمة وحمايتها من الأذى ومن الإشاعات الباطلة للمفسدين والمغرضين.
قالت عائشة أم المؤمنين تروي تفاصيل ما جرى: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أنزل الحجاب. فكنت أحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل دنونا من المدينة قافلين، آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش.
فلما قضيت شأني أقبلت الى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه. وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام. فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون الي.
فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت. وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي. ووالله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته فوطىء على يدها فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول.
وأضافت عائشة أم المؤمنين: فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول كيف تيكم ثم ينصرف، فذلك يريبني ولا أشعر بالشر. حتى خرجت حين نقهت، فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وكان متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلا الى ليل وذلك قبل ان نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في البرية قبل الغائط وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا.
فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم ابن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب. فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت تعس مسطح. فقلت لها بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا؟ فقالت أي هنتاه ولم تسمعي ما قال؟ وقلت ما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا على مرضي. فلما رجعت الى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال كيف تيكم، فقلت له أتأذن لي أن آتي أبوي، (تريد أن تستيقن الخبر من قبلهما)، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت لأمي يا أمتاه ماذا يتحدث الناس؟ قالت يا بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن عليها. فقلت سبحان الله أولقد تحدث الناس بهذا؟ وأضافت عائشة أم المؤمنين: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله. فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه، فقال أسامة: أهلك ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك. قالت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت له بريرة والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا قط أغمصه غير أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي وهو على المنبر فقال: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما يدخل على أهلي إلا معي. فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الاشهل فقال أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. فقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد: كذبت، لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.
فقام أسيد بن حضير وهو أبن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت.
وأضافت عائشة أم المؤمنين: فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. وأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوما لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي. فبينا أبواي جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي. فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا فسلم ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء.
فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة، إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه.
فلما قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة. فقلت لأبي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. فقال أبي والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. قالت أمي والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرا: إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني. فوالله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف حين قال فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.
ثم تحولت واضطجعت على فراشي، والله يعلم أني حينئذ بريئة وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها. فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه من العرق مثل الجمان وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه. فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال يا عائشة أما الله فقد برأك.
قالت (أي عائشة): فقالت لي أمي قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه فإني لا أحمد إلا الله عز وجل.
وأضافت عائشة أم المؤمنين: وأنزل الله تعالى “إن الذين جاءوا بالإفك” العشر آيات. ثم أنزل الله هذا في براءتي”. (5)
وهذه هي الآيات العشر الي تنزلت في براءة السيدة عائشة رضي الله عنها:
“إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم، لا تحسبوه شرا لكم، بل هو خير لكم، لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم، والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم. لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين. لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء، فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون. ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم. إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم، وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم. ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم. يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين. ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم. إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم”. (النور: 11-20)
وجاء في قصة حديث الإفك أيضا أن أبا بكر الصديق الذي كان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره، قال: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال. فأنزل الله: “ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، والله غفور رحيم”. (النور: 22). عندئذ قال أبو بكر الصديق: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع الى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. (6)
وأضافت عائشة أم المؤمنين: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري، قال لزينب ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا. قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع، قالت وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك. (7)
وبقيت براءة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قرآنا يتعبد به المسلمون إلى يوم القيامة. وكان الدرس الذي حفظه أصحاب النبي والأجيال التي جاءت من بعدهم أن قذف المحصنات واتهام الناس بالباطل في عرضهم من أكبر الشر وأسوأ المنكرات.
(1) ـ سيرة ابن هشام. الجزء الثالث. مصدر سابق. ص 183
(2) ـ المصدر السابق. ص 184
(3) ـ المصدر السابق. ص 183. والإشارة لمصدر الحديث النبوي الشريف وردت في الهامش الأول من هوامش الصفحة.
(4) ـ المصدر السابق. ص 184
(5) ـ اعتمدت الرواية الواردة في صحيح البخاري، الجزء الثالث، وهو مصدر سابق، الصفحات 37 إلى 40، وحذفت فقط عبارة “قالت” حيثما كان تكرارها غير ضروري. كما أنوه إلى أن البخاري يسمي يضيف إلى اسم صفوان بن المعطل السلمي كلمتي “ثم الذكواني”.
(6) ـ المصدر السبق. ص 40
(7) ـ المصدر السابق. ص 40
0 comments on “الفصل العاشر من كتاب الدكتور محمد الهاشمي الحامدي: السيرة النبوية للقرية العالمية ـ طبع أول مرة عام 1996”