عنوان هذا الفصل: إسلام أهل المدينة وقصة الهجرة الحاسمة
جاء موسم الحج الى مكة كما يأتي كل عام، وجاءت قبائل العرب تحج إلى البيت العتيق، تطلب مرضاة الله بما لا يرضاه منها. كان أول بيت يعبد فيه الله على وجه التاريخ قد فقد وظيفته الأساسية الذي بني من أجلها. بني من أجل أن يكون مسجدا للمؤمنين بالله وحده، الذين يعبدونه ولا يشركون به شيئا، وها هو تحت سلطان مشركي قريش قد غدا مزدحما بالأصنام التي تعبد من دون الله، أو يقدسها الناس لتكون واسطة بينهم وبين خالقهم، مع أن أبواب الخالق مفتوحة لجميع خلقه من دون وسيط ولا حاجب.
جاء موسم الحج والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثابتون على نهج الإيمان، صامدون في وجه حملة الظلم والقمع التي يتعرضون لها، يدعون للتوحيد والصلاة والزكاة ومكارم الأخلاق ومبادئ الحرية والمساواة والعدالة. وكعادته كل عام، وعلى نهج إبراهيم وموسى وعيسى وبقية الأنبياء عليهم السلام من قبله، أقبل النبي صلى الله عليه وسلم على وفود الحجيج يخبرهم برسالة الإسلام ويدعوهم للتوحيد ويطلب منهم النصرة والتأييد. النبي صلى الله عليه وسلم داعية في المقام الأول ورحمة للناس ونور يتسلل الى قلوبهم فيبدد عنها ظلمات الجهل والشرك والتعصب.
ليس للشجرة الطيبة أن تحمل ثمارا رديئة ولا للشجرة الرديئة أن تحمل ثمارا طيبة. إذن فمن ثمارهم تعرفونهم. فمن غنى القلب يتدفق الخير ومن غزارة القلب الشرير يتدفق الشر. هكذا خاطب المسيح عليه السلام قومه قبل حوالي ستة قرون. وهكذا كانت حالة الإستقطاب بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين زعماء الشرك والديكتاتورية في مكة. كان يخاطبهم بدعوة الإيمان والعمل الصالح ونصرة المظلومين واحترام المرأة والكف عن أكل أموال اليتامي واستغلال الفقراء، وكانوا يردون عليه بأنهم وجدوا آباءهم على مذهب في العقيدة والحياة ولن يقبلوا بتغييره رغم تواتر الأدلة على فساده وبطلانه.
التقى النبي صلى الله عليه وسلم في موسم الحج بعد حوالي أحد عشر عاما من بعثته مع وفد قادم من يثرب وعرض عليهم ثماره الطيبة. لقيهم النبي في مكان بمكة وعرف منهم أنهم وفد من الخزرج، والخزرج يشكلون مع الأوس أهم قبيلتين عربيتين في يثرب. قال لهم: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: نعم.
هنا أزيحت العقبة الرئيسية الأولى أمام الرسول، فلطالما رفضت وفود أخرى من قبيلته ومن قبائل أخرى عرضه للحوار والمناقشة. أما هؤلاء الناس من وجوه قبيلة الخزرج في يثرب فقد قبلوا أن يسمعوا منه وأن يناقشوه. وهذا مكسب كبير لصاحب الرسالة، صاحب القلب الخير والثمر الطيب. وبالفعل حدثهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن تعاليم الإسلام وما يدعو إليه وما ينهى عنه. قال ابن هشام: “فدعاهم الى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن”. (1)
حصل هذا اللقاء والتواصل في العام الحادي عشر من عمر الدعوة الإسلامية، وقبل عامين من الهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة المنورة. في تلك الأعوام، كان المسلمون من أهل مكة قد سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير من السور القرآنية التي نزلت عليه في مكة تشرح حقيقة الإسلام وتبين أوامره ونواهيه.
وأستأذن القارئ الكريم لنتوقف معا في هذا الموضع لقراءة بعض الآيات القرآنية الكريمة التي تساعد على فهم رسالة الإسلام وبيان ما كان يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذه آيات من سورة الأنعام:
“قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم: ألا تشركوا به شيئا. وبالوالدين إحسانا. ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم. ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق. ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون. ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده. وأوفوا الكيل والميزان بالقسط. لا نكلف نفسا إلا وسعها. وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى. وبعهد الله أوفوا. ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون. وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه. ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله. ذلك وصاكم به لعلكم تتقون”. (الأنعام: 151-153)
ومن السورة نفسها هذه الآيات:
“من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها. ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها. وهم لا يظلمون. قل إنني هداني ربي الى صراط مستقيم: دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا. وما كان من المشركين. قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له. وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء؟ ولا تكسب نفس إلا عليها. ولا تزر وازرة وزر أخرى. ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون”. (الأنعام: 160-164)
ومن سورة الأعراف هذه الآيات:
“قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق. قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة. كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون. قل إنما حرم ربي الفواحش ماظهر منها وما بطن. والإثم والبغي بغير الحق. وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا. وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون. ولكل أمة أجل. فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. يا بني آدم: إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي، فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون”. (سورة الأعراف: 32-35)
ومن سورة يونس هذه الآيات:
“قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله. ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم. وأمرت أن أكون من المؤمنين. وأن أقم وجهك للدين حنيفا. ولا تكونن من المشركين. ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك. فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين. إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو. وإن يردك بخير فلا راد لفضله. يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم. قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم. فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه. ومن ضل فإنما يضل عليها. وما أنا عليكم بوكيل. واتبع ما يوحى اليك واصبر حتى يحكم الله. وهو خير الحاكمين”. (يونس: 104-109)
ومن سورة هود هذه الآيات:
“فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير. ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون. وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين. واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين”. (هود: 112-115)
وهذه آيات من سورة النبي يوسف عليه السلام:
” وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى. أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم. ولدار الآخرة خير للذين اتقوا. أفلا تعقلون؟ حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء. ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين. لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب. ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء. وهدى ورحمة لقوم يؤمنون”. (يوسف: 109-111)
وهذه آيات من سورة النبي إبراهيم عليه السلام:
“وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم. تحيتهم فيها سلام. ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة: أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض، ما لها من قرار. يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الأخرة. ويضل الله الظالمين. ويفعل الله ما يشاء”. (إبراهيم: 23-27)
وهذه آيات من سورة الحجر:
“فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين. إنا كفيناك المستهزئين. الذين يجعلون مع الله إلها آخر. فسوف يعلمون. ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون. فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين. واعبد ربك حتى يأتيك اليقين”. (سورة الحجر: 94-99)
وهذه آيات من سورة النحل:
“ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم. وجئنا بك شهيدا على هؤلاء. ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء. وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى. وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. يعظكم لعلكم تذكرون. وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم. ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا. إن الله يعلم ما تفعلون”. (سورة النحل: 89-91)
تلك كانت نماذج قصيرة من آيات القرآن الكريم. كلمات مضيئة تبدد الظلمات والأوهام، وتقدم الجواب لكل الأسئلة المحيرة التي جالت بخاطر الإنسان وتبحر فيها الفلاسفة.
من خلق هذا الكون الفاتن العجيب؟ الجواب الصحيح من القرآن الكريم: “اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ”. (الزمر: 62)
من خلق الإنسان، وهل هو صدفة مثيرة من صدف الوجود؟ الإنسان ليس صدفة، بل خلقه الله وجعله من أكرم مخلوقاته. أرسل إليه الأنبياء، وأعطاه الحرية ليؤمن أو يكفر، وليختار طريقه في الحياة.
هل تعني عبادة الله إن يعرض المؤمن عن الحياة ومباهجها وزينتها؟ كلا. القرآن الكريم يوضح الأمر: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. (الأعراف: 32)
ما سر السعادة؟ الإيمان بالله والعمل الصالح.
وما العمل الصالح؟ إنه ما ذكر في هذه الآيات وما ذكر في القرآن الكريم بوجه عام. الإيمان بالله وحده لا شريك له، وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم الصلاة والزكاة والصوم والحج لمن استطاع إليه سبيلا، والبر بالوالدين، وصلة الرحم، وقول الصدق، والعدل، والإحسان، ومساعدة الفقراء والمحتاجين، والوفاء بالعهود، والإكثار من الحسنات، وترك الفواحش وكل مظاهر الإثم والبغي.
هل توجد حياة بعد الموت؟ نعم. وللذين يؤمنون بالله وحده ولا يشركون به شيئا ويعملون الصالحات جنات النعيم، يسكنونها خالدين فيها أبدا بأمر الله ومشيئته.
ونعود بعد هذه الوقفة الموجزة مع بعض آيات القرآن الكريم لقصة اللقاء بين النبي صلى الله عليه وسلم ووفد الخزرج من أهل المدينة في موسم الحج.
لم يكن أعضاء الوفد من المؤمنين الموحدين، ولكنهم كانوا على علم بمبدأ توحيد الله سبحانه وتعالى بالعبادة من خلال احتكاكهم بجيرانهم اليهود الذين استوطن عدد منهم يثرب في تلك الحقبة من التاريخ. فلما عرض عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما عنده، وحاورهم، وأجاب على أسئلتهم، تيقنوا أنه لا يحدثهم برأي فاسد أو قول زائف، وربطوا بين ما عرفوا عن رسالته وما سمعوه من علماء يهود في منطقتهم عن اقتراب موعد بعثة نبي جديد يستكمل ما بدأه إبراهيم وموسى وعيسى وبقية الأنبياء السابقين عليهم السلام. وبناء على هذه الحيثيات صدقوا ما حدثهم به الرسول صلى الله عليه وسلم وقبلوا بالإسلام ودخلوا فيه.
كانت تلك لحظة حاسمة في تاريخ الدعوة الإسلامية، لأنه سيكون لهذه الخطوة ما بعدها من التطورات الكبرى. ومن أجمل تفاصيلها الأخرى أن أعضاء الوفد الخزرجي تذكروا ما تعاني منه يثرب منذ عقود من التناحر والإقتتال بين القبيلتين الرئيسيتين فيها، ولمسوا رسالة السلام في دعوة الإسلام، فقالو للنبي صلى الله عليه وسلم:
“إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك. فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين. فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين الى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا”. (2)
أول سفير في تاريخ الإسلام
عاد وفد الخزرج الى المدينة وقد قبلت عقولهم الإسلام ومالت له قلوبهم، عن اختيار حر طوعي لا إكراه فيه ولا ضغط. ومن أسماء هذا الوفد تيم الله، وأسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وعامر بن الأزرق، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله. ومنهم أيضا امرأة اسمها عفراء بنت عبيد، وجميعهم من أفرع شتى من قبيلة الخزرج مثل بني النجار، وبني مالك بن النجار، وبني زريق، وبني سلمة، وبني حرام بن كعب، وبني عبيد بن عدي.
وكان بوسع الوفد أن يتحلل من التزامه بالإسلام عند العودة لو كان ما صدر منه في مكة ناجما عن لحظة انبهار ظرفي مؤقت بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما قرأه عليهم من القرآن الكريم. لكن الوفد لم يتراجع ولم يندم. على العكس تماما، حمل العائدون من مكة دينهم الجديد محمل الجد الكامل، فحدثوا به أهلهم، ونقلوا لهم ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، فانتشر الخبر في كل أحياء المدينة.
ولم ينته العام حتى أصبح للإسلام عدد معتبر من الأتباع في يثرب. فلما جاء موسم الحج الجديد الى مكة، التقى وفد منهم تشكل من اثني عشر شخصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، في مكان يسمى العقبة، وهناك بايعوه على جملة من التعهدات والإلتزامات، أي أنهم قدموا لهم عهد ولاء طوعي للإلتزام بعدة مسائل طلبها منهم النبي صلى الله عليه وسلم.
قال لهم: “تبايعونني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله، فأمره الى الله، إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه”. (3)
إن كل إنسان نشأ في بيئة معادية للإسلام أو تأثر بخطاب الإسلاموفوبيا وثقافة كراهية المسلمين سيشعر بنوع من الصدمة إذا قرأ نص البيعة الأولى في تاريخ الإسلام. إنها، كما تدل عباراتها الواضحة، بيعة من أجل صلاح الفرد وصلاح المجتمع، تنهى من يلتزم بها عن الشرك بالله وعن السرقة والزنا والقتل والكذب والقذف. بيعة تؤسس لمجتمع الأمن والأخلاق الكريمة، منذ اللحظة التاريخية التي صدرت فيها أول مرة في مطلع الثلاثينات من القرن الميلادي السابع، وفي عصرنا هذا، وفي كل عصر مقبل. والحق أنه توجد أدلة قوية كثيرة، تبين كلها أن الدعايات المعادية للإسلام لا يكون لها شأن أو تأثير على الفرد إلا إذا حجبت عنه الحقائق الموضوعية والصحيحة بشأن دين محمد صلى الله عليه وسلم.
ويمكن القول أن هذه البيعة الأولى في تاريخ الإسلام جاءت تأكيدا لانتشار الإسلام خارج مكة المكرمة، ولتزايد ثقة المسلمين بأنفسهم، ولبدايات التوجه نحو تأسيس الجماعة السياسية الإسلامية الأولى في التاريخ، كما يوحي بذلك تضمين التعهد بعدم المعصية في معروف في نص البيعة. ويعني هذا التعهد أن المسلمين الملتزمين بها سيطيعون أوامر النبي صلى الله عليه وسلم في المعروف. وهذه مسألة أخرى عظيمة القدر في الخطاب الإسلامي، ذلك أن الطاعة لا تقبل ولا تجوز إلا فيما هو معروف، أي إلا فيما هو حق وخير منسجم مع تعاليم الدين. وكل أمر يخرج عن المعروف بهذا المعنى، من الحاكم المسلم، وحتى من النبي صلى الله عليه وسلم، هو أمر لاغ لا يعتد به.
يؤمن كل مسلم طبعا ويوقن أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصدر عنه أمر إلا وهو من أفضل أنواع المعروف. لكن النبي أثبت الشرط المشار اليه في نص البيعة الأولى ليكون سنة من بعده، وحجة يستقوي بها المسلمون أنصار الحرية السياسية والشورى والديمقراطية في كل عصر.
وافق الوفد القادم من المدينة على هذه التعهدات كلها وبايع النبي صلى الله عليه وسلم فيما عرف ببيعة العقبة الصغرى. فلما استعد للعودة، بعث النبي معهم واحدا من خيرة أصحابه، هو مصعب بن عمير رضي الله عنه، “وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين”. (4)
ربما جاز لنا أن نصف مصعب بن عمير في هذا السياق بأنه أول سفير في تاريخ الإسلام، علما بأن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه كان الناطق الرسمي باسم اللاجئين المسلمين الى الحبشة ولم يكن موفدا رسميا من النبي صلى الله عليه وسلم الى ملكها. كان مصعب في أول عهده فتى مدللا ترمقه الأبصار في مكة لما عرف به من شرف ومن أناقة كبيرة فيما يلبس. فلما دخل في الإسلام تغيرت أولوياته، وعرف أن في الحياة ما هو أهم كثيرا من المباهاة بالمال والملابس والزينة. عرف مصعب أن هناك أمورا أخرى في الحياة أعظم شأنا، منها هداية الناس الى محبة الله وعبادته وحده من دون شريك، ومساعدتهم في اكتشاف السعادة العظيمة التي يدخلها الإيمان الى القلوب، وإصلاح أحوال المجتمع كله بنشر تعاليم الإسلام وأنوار القرآن الكريم.
أدرك مصعب كل هذه المعاني السامية الجديدة فتجلت في حياته وسلوكه اليومي، وكان من المقربين والموثوقين لدى النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لم يكن أمرا مستغربا أن يختاره سفيرا وممثلا للإسلام في يثرب. وهناك عمل هذا الصحابي الجليل بهمة عظيمة وصدق وإخلاص، واستطاع أن يكسب ثقة الناس بأخلاقه العالية وبتواضعه الجم. وبالإضافة إلى هذه المؤهلات الشخصية الرفيعة، كان السلاح الأقوى بيد مصعب هو صدق الرسالة التي جاء يدعو الناس إليها، وآيات القرآن الكريم التي تخاطب العقل والوجدان. لذلك كانت تعاليم الإسلام تستهوي المزيد من الناس في يثرب كل يوم، الناس الذين أدركوا أن الوثنية ليست خيارا يناسب كرامة العقل البشري، وأن الكون الفاتن العجيب المحيط بهم لا يمكن أن يوجد صدفة، وأن القلب الخالي من الإيمان يشبه القصر الرائع الذي لا سكان فيه.
دخل كثير من أهل يثرب في الإسلام، وأقيمت الصلوات، وتقارب الإخوة المتشاكسون من الأوس والخزرج بسبب الرابطة الدينية الجديدة التي ألفت بين قلوبهم. ومع ذلك لم يتوقف مصعب بن عمير عن أداء واجبه في الإتصال بكل فرد وكل حي يمكنه الوصول اليه من أجل توسيع دائرة انتشار الإسلام في يثرب.
كان مصعب مقيما مع أسعد بن زرارة، وقد سبق ذكر اسمه ضمن الوفد الأول من أبناء الخزرج الذين لقوا النبي في مكة واقتنعوا برسالته ودخلوا في دين الإسلام. وذات يوم من الأيام اقترح أسعد على مصعب زيارة دار بني عبد الاشهل، ودار بني ظفر، وتعريف الناس في هذين الحيين المهمين من أحياء يثرب بتعاليم الإسلام.
لكن هذه الخطوة لم ترق لزعيمين كبيرين من زعماء الحيين ومن زعماء يثرب كلها بشكل عام: سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وكلاهما مشرك. قال سعد لأسيد إنه لا يرحب بزيارة الوفد الإسلامي للمنطقة ويخشى من تأثيرهما على السكان، واقترح عليه أن يتوجه نحو مصعب بن عمير واسعد بن زراره ويطردهما ويحذرهما من مغبة تكرار الزيارة. واعتذر سعد عن عدم قيامه هو نفسه بهذه المهمة بسبب علاقة القرابة التي تجمعه مع أسعد.
أقبل أسيد بن حضير بنفسه على الوفد المسلم الزائر متوشحا سلاحه، وكان أسعد قد قدم لمصعب تعريفا سريعا بالرجل وبين له أنه سيد بارز مطاع في قومه. استعد مصعب، وكان هدفه الأول والاساسي أن ينجح في إقناع الزعيم الغاضب بالدخول في جلسة حوار. هكذا كان شأن المسلمين في أغلب الأحوال قديما وحديثا: طلاب حوار بالحجة والدليل، لأن دخول الإسلام بالإكراه باطل لا قيمة له، وأساس العقيدة في الإسلام أن يختارها الإنسان الحر بقناعته الحرة وليس تحت الضغط والإكراه.
قال أسيد في نبرة غاضبة يخاطب مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة ويهددهما بالقتل: “ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة.
فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره.
قال (أي أسيد): أنصفت. ثم ركز حربته وجلس إليهما.
فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن. فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله. ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله. كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تصلي.
فقام واغتسل وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين. ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ. ثم أخذ حربته وانصرف الى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم”. (5)
في ساعة حوار تحول عدو بارز من أعداء الإسلام الى داعية من دعاته. عندما أزيحت الحواجز التي أقامتها أمامه الدعايات الزائفة المضللة، تقبل عقله دعوة التوحيد وانفتح له قلبه. إن رد فعله يذكر بمواقف كثير من الذين يدخلون دين الإسلام في القرن الهجري الخامس عشر، القرن الحادي والعشرين للميلاد، رغم ضخامة الحملة الإعلامية التي تهدف إلى تشويه الإسلام التشنيع عليه، الى درجة أن بعض الساسة المتعصبين في النرويج دعوا صراحة الى منع الإسلام في أوروبا وتجريم معتنقيه!!
بالرغم من هذا التشويه وهذا التشنيع، تأتي الأخبار منتظمة عن إقبال كثير من الناس على الإسلام، وهم من ثقافات وطبقات أجتماعية مختلفة. وفي الكثير من الأحيان، يبدأ العديد من المسلمين الجدد رحلتهم متأثرين بالدعايات المضادة وبثقافة الكراهية ضد الإسلام، لكنهم عندما يعطون عقولهم فرصة لتأمل الأدلة، ولسماع دفاع الإسلام عن نفسه، فإن شمس الحق والإيمان تسطع في نفوسهم وفي محيطهم من حولهم.
بعد إسلام أسيد بن حضير، تركز الإهتمام على سعد بن معاذ، الزعيم الذي كان يحرض قبل قليل على طرد الداعيتين المسلمين، مصعب وأسعد، ويهدد باستخدام العنف ضدهما. كان سعد جالسا مع عدد من أصدقائه، فلما رأى أسيدا قادما تلفت لمن حوله وأقسم أن صديقه عاد بغير الوجه الذي ذهب به. لم يكشف أسيد ما دار بينه وبين مصعب واسعد، ولم يخبر الناس بإسلامه، ولكنه حرض سعدا على أن يتولى هو بنفسه الإتصال بالوفد المسلم والتعامل معه مباشرة.
قام سعد متحفزا لتحقيق مراده، والتقى الداعيتين المسلمين وطلب منهما الكف عن نشر الدين الجديد بين الناس وهددهما وتوعدهما إن لم يستجيبا لطلبه. فكان جوابهما أن طلبا منه أن يجلس فيسمع منهما ويتحاور معهما: إن وجد في حديثهما ما يفيد فهذا ما يطمحان إليه، وإن وجد غير ذلك استجابا لطلبه وغادرا المكان فورا.
قبل سعد بن عبادة الطلب، وجلس إلى مصعب وأسعد فلم يسمع منهما إلا ما يقنع العقل ويسعد القلب، فأعلن اقتناعه بالدين الجديد ودخل فيه. ومن لحظة إسلامه، أصبح سعد داعية ينصح أهله بدخول الدين الجديد. ولأن قومه يعرفون حكمته ورجاحة عقله، ومكانته الرفيعة بينهم، فإنهم ناصروه في موقفه، وقبلوا ما قبله من تعاليم الإسلام، وتجددت حياتهم وأضاءت وأشرقت بأنوار الإيمان.
وهكذا انتشر الإسلام بين أحياء يثرب انتشارا واسعا، وحقق مصعب بن عمير نجاحا منقطع النظير في مهمته التي كلفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانه عليها أسعد بن زرارة وآخرون. كان مصعب رضي الله عنه علما لامعا من أعلام تلك الحقبة من تاريخ الإسلام، وبعد سنوات قليلة، سينال هذا السفير الناجح اللامع درجة الشهادة دفاعا عن الإيمان بالله الواحد الأحد وحرية العقيدة وكرامة الإنسان، فقد قتل في معركة أحد، وهو يصد مع المؤمنين حملة عسكرية شنتها قريش بهدف استئصال الإسلام ومصادرة حقوق المسلمين في الحياة الكريمة وفي عبادة الله الواحد الأحد بحرية وأمان. وقد بقيت ذكراه الجميلة وستبقى حية في قلوب المسلمين جيلا من بعد جيل.
بيعة تاريخية في العام الثاني عشر من عمر الدعوة الإسلامية
جاء موسم حج العرب الى مكة، في العام الثاني عشر من عمر الدعوة الإسلامية، فعاد السفير الناجح مصعب بن عمير الى النبي صلى الله عليه وسلم يقدم له تقريرا عما أنجزه في يثرب. لكنه لم يأت وحده، وإنما جاء معه وفد كبير من المسلمين المتشوقين الى لقاء الرسول، والذين اتخذوا قرارا حاسما بتأييده وتأييد دينه.
ولاشك أن التطورات الضخمة التي حصلت في يثرب ودخول أكثر أهلها في الإسلام، قادت الى بروز خيار استراتيجي جديد للنبي صلى الله عليه وسلم، هو الهجرة من مكة الى المدينة الجديدة التي آمنت به، ليتخذها عاصمة يوفر فيها مكانا آمنا المسلمين وينشر انطلاقا منها أنوار الإسلام في العالم. ومع أن مكة هي قبلة العرب ومسقط رأس النبي وأهله، فإنه قد قضى فيها الآن اثني عشر عاما منذ نزول الوحي إليه، ولم يجد من زعمائها الكبار إلا الصد والظلم والتشويه.
كانت مكة مزدحمة بمشركي العرب الذين توافدوا للحج، وكان كثير منهم يؤمنون بأن الله تعالى هو خالق السماوات والأرض والكائنات جميعا، لكنهم يشركون في عبادته، ويعظمون الأصنام، ويعتقدون في قدرتها على النفع والضر ويرون فيها واسطة تقربهم من الله زلفى. كانوا يكررون أخطاء أمم أخرى كثيرة، عرفت دعوة التوحيد وآمنت بها، ثم مالت مع مرور الزمن لتقديس عدد من الصالحين فيها، والغلو فيهم، واعتقاد قدرتهم على النفع والضر، وتخليد ذكراهم بعد موتهم بنحتهم في أصنام وتماثيل. وهكذا دخل الشرك إليهم من تعظيم الصالحين.
وكان المسلمون يختلطون بالحجاج ويدعونهم إلى الإسلام ويعرفونهم بتعاليمه.
في نفس الوقت، كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخذ الترتيبات الضرورية للإجتماع بأعضاء وفد يثرب الذين قدموا مع مصعب بن عمير، بعيدا عن أعين أعدائه من مشركي قريش. فلما كانت احدى الليالي الأخيرة من أيام التشريق، وهي المرحلة الأخيرة من الحج، نام المسلمون القادمون من المدينة مع بقية حجاج العرب المشركين أول الليل. حتى إذا مضى الثلث الأول منه، واطمأنوا الى أن العيون التي ترصدهم نامت أو غفلت، خرجوا متسللين الى موعد سبق تحديده لهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين، هما نسيبة بنت كعب وتدعى أم عمارة، وأسماء بنت عمرو وتدعى أم منيع.
كان ممن رافق النبي لهذا اللقاء عمه العباس بن عبد المطلب، وهو لم يكن قد دخل في الإسلام آنذاك، ولكنه كان نصيرا للنبي مهتما بأمره بسبب القرابة العائلية بينهما. حتى إذا اكتمل نصاب المجتمعين، قام العباس مخاطبا أهل يثرب، وقد أدرك أن ما يدور أمام عينيه اجتماع حاسم وتاريخي، وستترتب عليه أوضاع سياسية وأمنية وعسكرية جديدة. قال العباس:
“إن محمدا منا حيث قد علمتم. وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه. فهو في عز من قومه ومنعة من بلده، وإنه قد أبى إلا الإنحياز اليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك. وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده”. (6)
تدل كلمة العباس أن القرار الإستراتيجي بالهجرة الى يثرب قد تم اتخاذه من جهة المبدأ، لكن تأكيده كان يتطلب بيعة رسمية من أهل يثرب المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم، بيعة تتضمن بوضوح التبعات التي يمكن أن تنجر على أهلها، حتى يمضوا فيها واثقين مصممين، أو ينسحبوا منها منذ البداية إن كانوا غير قادرين على الوفاء ببنودها.
قال وفد يثرب للعباس إنهم يريدون أن يسمعوا من النبي مباشرة ويعرفوا منه ما يطلبه لربه ولنفسه. فتحدث النبي صلى الله عليه وسلم لهم عن دعوة الإسلام ومبادئها، وحثهم على التمسك بها، وقرأ عليهم من القرآن الكريم، وأوضح لهم أن البيعة التي يطلبها تشمل التزامهم بأن يحموه مما يحمون منه نساءهم وأبناءهم.
عرض النبي مطالبه على أهل يثرب بشفافية كاملة، فهو كان يعرف أن طغاة مكة لن يسمحوا للنبي والمسلمين بتأسيس مركز إسلامي مستقل في الجزيرة العربية، وسيشنون الحرب من أجل استئصاله. ولن تكون الحرب في هذه الحالة لن تكون موجهة ضد النبي والمؤمنين به من أهل مكة وحدهم، وإنما ستستهدف أيضا أهل يثرب والمسلمين كافة. ومن هنا لزم أن يعرف أهل يثرب المخاطر التي يقدمون عليها بمبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وتبنيهم لدعوته.
ويبدو أن العباس عم الرسول كان حريصا جدا على استكشاف مدى استعداد أهل يثرب للتضحية في سبيل الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم، فعاد وبين لهم أن قبائل كثيرة ستستهدفهم بالحرب إن هم مضوا في بيعتهم، وأن أشرافهم سيلقون القتل وأموالهم ستنهب من القوى المعادية للإسلام. فقال أهل يثرب في موقف تاريخي حاسم: ” إنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الاشراف، فما لنا يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال الجنة. قالوا: ابسط يدك. فبسط يده فبايعوه”. (7)
ينظر الإنسان في هذه الجملة الأخيرة فيرى عجبا. أهل يثرب أعلنوا قبولهم بيعة النبي حتى لو قادت الى قتل زعمائهم ونهب أموالهم، ثم طلبوا من النبي أن يوضح لهم الثمن الذي يحصلون عليه من مثل هذا الإلتزام. والنبي محاصر في مكة مستهدف من طغاتها، وفي أمس الحاجة لأنصار وحلفاء أقوياء. أليس من الذكاء إذن أن يعرض مغانم دنيوية كبيرة لأهل يثرب في هذه اللحظة، كأن يعدهم بالملك والمال الوفير والسيادة في الجزيرة العربية؟
أبدا. إنه لم يشر إلى شيء من هذا من قريب أو من بعيد. لم يتعهد لهم بأمر واحد من أمور الدنيا. كانت كلمته الوحيدة لهم: الجنة. والجنة أمر من أمور الغيب، يؤمن بها من آمن بالله ورسوله وبالبعث بعد الموت. وقد قبل أهل يثرب هذا الثمن وفرحوا به لأنهم يعرفون قيمته العظمى منذ أن دخلوا في دين الإسلام. لقد سمعوا القرآن الكريم وخشعت له قلوبهم، لأنه من عند الخالق الرازق الذي يقول للشيء كن فيكون. قال الله عز وجل:
“لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله. وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون. هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة. هو الرحمن الرحيم. هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر. سبحان الله عما يشركون. هو الله الخالق البارئ المصور. له الاسماء الحسنى. يسبح له ما في السماوات والأرض. وهو العزيز الحكيم”. (الحشر: 21-24)
مرضاة الله عز وجل وجنته هو ما سعى إليه قادة يثرب في ذلك اللقاء التاريخي العظيم، وكانوا مستعدين للتضحية بأنفسهم وأموالهم من أجل هذا الهدف. فإن انتصروا في الدنيا أيضا، فإن كل ما يعنيهم من مغانم الدنيا أن تبقى لهم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وجواره. كانوا معذورين في حبهم لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وها هم ملايين المسلمين جيلا من بعد جيل يصلون على نبيهم في كل يوم فتفيض أعينهم من الدمع لذكراه، محبة وإعزازا وامتنانا لما قام به من أجل تبليغ رسالة الخير والحرية والإيمان للعالم. هؤلاء جميعا ينظرون بإعجاب لأهل يثرب، ويقولون معهم: صحبة النبي صلى الله عليه وسلم خير من الدنيا وما فيها.
وها هم بعض خصوم الإسلام منذ ظهوره حتى هذا العصر، يحاولون مرة من بعد مرة أن يصوروه مجرد دعوة بشرية سياسية مصطنعة هدفت الى تحصيل الحكم والمجد والثراء. لو كان الإسلام دعوة دنيوية مختلقة لما نجح هذا اللقاء الحاسم في مكة المكرمة بين النبي صلى الله عليه وسلم وقادة يثرب. غير أن العداوة التي تسكن عقول وقلوب بعض المتشددين الكارهين للإسلام تحول بينهم وبين رؤية الحق والإعتراف به. هي عداوة شبيهة الى حد كبير بالعداوة التي أبداها فرعون وأتباعه لموسى عليه السلام، وبالعداوة التي لقيها عيسى عليه السلام وحواريوه من قبل الخصوم والكارهين. عداوة لا سند لها إلا الأكاذيب والأوهام، وهي أكاذب وأوهام لا تصمد أمام الحقائق التاريخية لحظة واحدة.
تمت البيعة، ثم طلب أهل يثرب لأنفسهم شيئا. أيكون أمرا من أمور مغانم الدنيا يا ترى؟ هل أعادوا النظر في موقفهم السابق الذي اكتفى بالجنة مقابلا لبيعتهم؟
كلا. لقد قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم إنهم يخشون أن يتركهم إذا انتصر على معسكر الشرك والإستبداد ويعود الى موطنه الأصلي مكة. هذا ما كان يقلقهم: أن يبتعد عنهم النبي العظيم الذي آمنوا به وأحبوا صدقه وتواضعه وخلقه العظيم. فأكد لهم الرسول أنهم منه وهو منهم، ذمته ذمتهم، وحرمته حرمتهم. وبذلك تمت أركان البيعة واكتملت.
طلب الرسول من الوفد الزائر أن يختاروا اثني عشر نقيبا ليكونوا في عداد ما يشبه الهيئة القيادية للمسلمين من أهل يثرب، وحثهم على أن يكونوا مثل الحواريين أنصار المسيح عيسى بن مريم عليه السلام. هي ذي سيرة الإسلام والمسيحية، وسيرة محمد وعيسى وموسى وإبراهيم وبقية الأنبياء عليهم السلام: سيرة أعظم وأنبل مشروع في تاريخ الكون، مشروع واحد متكامل، أنجز على مراحل.
تناهى خبر بيعة العقبة الثانية الى مسامع السلطات القرشية من دون تفاصيل كثيرة عن هوية زعماء الوفد المسلم القادم من يثرب، فتحركت على عجل، تهدد الزائرين بالحرب إن هم وقفوا مع النبي وحالفوه. ولكن أغلبية المسلمين الذين حضروا ليلة البيعة كانوا قد غادروا عائدين لديارهم، فلم يقدر طغاة قريش إلا على اعتقال سعد بن عبادة، الزعيم المعروف في يثرب، وقد لحقوا به في طريق عودته. اعتقلوه وعادوا به الى مكة فضربوه وأهانوه وجذبوه من شعره، لكن الأعراف القبلية السائدة ساهمت في حسم الأمر: فقد تدخل لصالح سعد بعض الأشراف المكيين الذين كان لسعد فضل عليهم خلال رحلاتهم التجارية الى الشام، وهي رحلات تقودهم الى يثرب أو الى أطرافها، فكان تدخلهم للإفراج عن سعد بن عبادة من باب رد الجميل.
دل هذا التصرف على الغطرسة التي كان قادة مشركي قريش يتعاملون بها مع الإسلام وأهله. كان خيارهم الوحيد هو العنف في مواجهة الإيمان. لقد تمادت السلطات القرشية على مدى أكثر من عقد من الزمان في حربها على الإسلام والمسلمين: صادرت منهم حرية الإعتقاد، وحرية العبادة، وسخرت من النبي صلى الله عليه وسلم وكذبته، وآذته وحاصرته سياسيا واقتصاديا، وعذبت أنصاره وقتلت بعضهم، وطاردتهم حتى في المنافي مثلما فعلت مع من لجأ من المسلمين بدينه إلى أثيوبيا.
وطيلة هذه السنوات، صبر النبي على الأذى وصبر أصحابه. كان يمر على آل ياسر وهم يعذبون، في الواقعة التي استشهدت فيها سمية، فلا يملك إلا أن يقول لهم: صبرا آل ياسر.. موعدكم الجنة.
لكن سنن التاريخ من قبل ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن بعده أظهرت دائما أن الصبر على الأذى من قبل المؤمنين ومن قبل أنصار الحق والحرية هو خيار من خيارات كثيرة. يصبر المؤمنون على أمل أن تنصاع سلطات الظلم والفساد والتعصب لصوت المنطق يوما ما وتقبل باحترام حقوق الآخرين. أما عندما تمعن هذه السلطات في تنفيذ سياساتها القمعية، وتزيد من إجراءاتها الرامية لمحاربة دعاة الإيمان والعدالة والمساواة، ولقمعهم واستئصالهم، فإنها تجبر المؤمنين إجبارا على البحث عن خيارات أخرى.
في حالة النبي موسى عليه السلام، أسرف فرعون في طغيانه وفي ظلم الشعب اليهودي. وفي النهاية نجا صف الإيمان وأحاطت أمواج البحر الأحمر من كل مكان بفرعون وجنوده فابتلعتهم في ساعة من الزمان. وفي حالة أخرى، قاتل النبي داود مع المؤمنين بزعامة الملك طالوت، وتمكن داود من قتل الطاغية جالوت وانتصر معسكر الإيمان رغم قلة العدد والعدة، كما تبين هذه الآيات من القرآن الكريم:
“فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ. تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ”. (البقرة: 249-252)
وفي غير حالات الأنبياء، توجد أمثلة كثيرة في الماضي والحاضر، تدل على صواب الوقوف في وجه سلطات التعصب والقمع والإستبداد. لكن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم ما كان له أن يقرر لوحده تغيير منهج الصبر على الظلم الى منهج الدفاع الفعلي عن النفس إلا بإذن من ربه. وبالفعل نزل الوحي بقول فاصل في هذه المسألة.
قصة الهجرة النبوية الى المدينة
“أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ. وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ. وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ. وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ”. (الحج: 39-44)
بهذه الآيات بدأ فصل جديد في تاريخ الدعوة الإسلامية، لأنها تضمنت إذنا للمؤمنين بحمل السلاح واستخدامه دفاعا عن أنفسهم في وجه العدوان المستمر الذي شنته السلطات القرشية المستبدة ضدهم منذ اليوم الأول لنزول الوحي. وتضمنت الآيات بيان الحكمة من الحرب وتحديدا واضحا لما يكون من نتائجها وآثارها إذا انتصر المؤمنون.
أما الحكمة فخلاصتها أن حرية الإعتقاد وحرية العبادة للمؤمنين كافة ستصادر وتختفي بالجملة إذا منع المؤمنون من الدفاع عن أنفسهم، وسيتخذ الطغاة المتعصبون صمت المؤمنين وقبولهم بالأمر الواقع نوعا من الموافقة الضمنية للتمادي في سياساتهم القمعية، بما يؤدي لتدمير المزيد من دور العبادة اليهودية والمسيحية والإسلامية.
وأما أهداف الحرب إذا تحقق النصر للمؤمنين فهي تأمين المناخ الضروري لممارسة حرية الإعتقاد وحرية العبادة، وطاعة الله بأداء فرائضه كالصلاة والزكاة، والأمر بالمعروف، أي بكل أمر فيه مرضاة الله تعالى وخير المجتمع والأفراد، والنهي عن المنكر، أي النهي عن كل ما فيه غضب الله تعالى وإضرار بمصالح المجتمع والأفراد.
إنه إذن بالحرب من أجل الحرية ومن أجل هزيمة قوى التعصب والتشدد والإرهاب، التي توظف وجودها في الحكم لمحاربة حرية الإعتقاد والعبادة ومصادرة حق الإختلاف وحكم الشعب بقوة السلاح.
وقد حاول بعض خصوم الإسلام المتعصبين في الماضي والحاضر أن يضعوا هذا الإذن بالحرب خارج سياقه، ويصوروه دليلا على وجود نزعة عدوانية في الإسلام. فإذا طلب منهم الباحث المحايد أن يفسروا صبر النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه من المؤمنين على القمع الذي سلط عليهم لثلاثة عشر كابروا وعاندوا وحاولوا تغيير مجرى الحديث. وإذا سئلوا عن موقفهم من الحروب الإستعمارية والإمبريالية التي خاضتها العديد من الدول في أفريقيا وآسيا، وأدت إلى خضوع كثير من الدول الإسلامية وغيرها للإستعمار المباشر، وجدتهم من المتحمسين لها أو المبررين لها. إنهم مستعدون لمنح الشرعية لحروب تم خوضها من أجل نهب ثروات الشعوب، ويقبل بعضهم حتى تبرير ما جرى في جنوب إفريقيا في القرن العشرين من تمييز عنصري رسمي ضد السكان الأصليين، ولكنهم لا يبدون أي استعداد لتفهم حق المسلمين في الدفاع عن أنفسهم وعن حريتهم في الإعتقاد والعبادة.
وبعضهم يميز بين أنبياء الله، فيقبل الآيات التي عرضناها في تمجيد دور النبي داود في الحرب تحت قيادة الملك طالوت، لكنه يتخلى عن المنطق إذا تعلق الأمر بالنبي محمد صلى الله عليه وعلى داود.
الله تعالى أحكم وأعدل على كل حال من بعض خلقه الذين أعماهم التعصب، والنزعات العنصرية أحيانا، عن التعرف على الحق والشهادة به. وهو خاطب النبي في الآيات من سورة الحج يذكره بأن ما لقيه من تكذيب قوى التعصب والإستبداد سنة سابقة في تاريخ الأنبياء، فقد لقي التكذيب مثله نوح وإبراهيم وموسى وأنبياء آخرون كثر، لكن النصر النهائي كان دائما في جانب صف المؤمنين.
في سياق هذا التوجيه القرآني الكريم حدثت البيعة الثانية من أهل يثرب للنبي صلى الله عليه وسلم، والتي تضمنت التزاما واضحا منهم بحماية النبي مما يحمون منه أنفسهم وأبناءهم، بما يعني تعهدا واضحا بالقتال دفاعا عن الدعوة الإسلامية.
وبعد بيعة العقبة الثانية، تمثل التطور الحاسم الآخر في الأمر الذي أصدره النبي لأصحابه بالهجرة الى يثرب، مبينا لهم أن الله تعالى جعل لهم فيها إخوانا ودارا يأمنون بها.
هذه هجرة جديدة أقرب وأقل مشقة من الهجرة الأولى الى الحبشة. وأغلب المسلمين كانوا بحاجة اليها، لأنهم كانوا متمسكين بدينهم صابرين على ما يلحقهم من ظلم وأذى في مكة، حالهم حال القابض بيده على الجمر. وها هي يثرب تتيح لهم خيارا جديدا لم يلقوا مثله منذ نزول الوحي على النبي أول مرة قبل ثلاثة عشر عاما: أن يكون لهم مركز حر مستقل ترفع فيه رايات الإسلام، ويستطيعون فيه ممارسة عبادتهم دون التعرض للعسف والقهر.
بدأ مسلمو مكة في الهجرة بالعشرات. يتركون مواطن طفولتهم، وبيوتهم، وممتلكاتهم، ويفضلون على ذلك كله نسائم الحرية في يثرب، على بعد ما يقرب من خمسمائة كيلومتر، وعلى الطريق الرئيسي للتجارة بين مكة والشام.
حاولت السلطات القرشية منع من تقدر على منعهم من الهجرة، ومنهم أبو سلمة بن عبد الأسد. كان من المسلمين الذين هاجروا الى الحبشة، وبعد عودته منها وسماعه بانتشار الإسلام في المدينة، أراد أن يكون سابقا في الإنتقال إليها. كانت معه في طريق هجرته زوجته أم سلمة، وابنه سلمة. لكن بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهم من رموز صف الشرك والتسلط، اعترضوا طريقه وافتكوا منه زوجته وابنه بالقوة، وفرضوا عليه المغادرة من دونهما.
بقيت أم سلمة حبيسة عند بني المغيرة مدة عام كامل تقريبا، تبكي زوجها ورفيق عمرها الذي فصلت عنه بقوة السلاح. وبقيت كذلك حتى توسط لها أحد أقاربها لما رأى من سوء حالها، فسمح لها سجانوها بالمغادرة.
وفقد العديد من المهاجرين أموالهم أيضا، ومنهم صهيب بن سنان. قال له عدد من أعداء الإسلام المتعصبين من أهل قريش: “أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا نعم. قال فإني جعلت لكم مالي”. (8) وبلغ الخبر الى النبي صلى الله عليه وسلم فما كان له من تعليق إلا قوله: ربح صهيب. ربح صهيب.
وهذا تعليق لا يروق كثيرا للذين يرون أن المال أهم شيء في الحياة، ويقبلون التضحية بكرامتهم وحريتهم وعقيدتهم من أجله. لكن المسلمين والناس الأسوياء الذين يعرفون أهمية الإيمان في الحياة وأهمية التزام الإنسان بمبادئ شريفة يدافع عنها في كل الظروف، كل هؤلاء يفهمون مغزى التعليق الموجز والرائع من النبي صلى الله عليه وسلم. نعم، خسر صهيب ماله ولكنه ربح إيمانه، وربح مصيره الحر الذي سيجمعه في يثرب بمواطني أول دولة إسلامية على وجه الأرض، وقبل ذلك كله وبعده مرضاة ربه عز وجل.
وفي فترة قليلة، اكتملت هجرة الأغلبية الساحقة من المسلمين. وهناك في يثرب، نزل المهاجرون عند إخوانهم المسلمين من أهل المدينة وسكنوا معهم في بيوتهم عن طيب خاطر. إن عقيدة الإسلام جعلت منهم أمة واحدة متماسكة وأبرزت في كل واحد منهم أجمل ما الإنسان من خصال وأخلاق حميدة.
لم يبق بمكة إلا الذين منعتهم السلطات القرشية من المغادرة بالقوة، أو قلة من الذين أجبرتهم على التخلي عن دينهم بالقوة والبطش أيضا. وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطبع، وابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبقي أخلص أصدقائه، أبو بكر الصديق. كان أبو بكر قد خطط للهجرة الى يثرب من قبل مرارا، لكنه كان في كل مرة يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في المغادرة يسمع منه منه ما يدفعه للتريث والإنتظار. كان يقول له: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا.
كان المسلمون وأعداؤهم متفقين على أن هجرة المسلمين الى المدينة لن تأخذ مداها الكامل ولن تحقق التوقعات المرتقبة منها إلا إذا هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم والتحق بأنصاره في يثرب. ولذلك، حرص الأعداء على عمل كل ما من شأنه منع الرسول صلى الله عليه وسلم من الهجرة. وبما أن وسائلهم في السنوات السابقة لم تنفع، فقد قرروا التصعيد، واعتمدوا خطة جديدة ظنوا أنها ستحسم الأمر وتوقف عجلة التاريخ. لقد قرروا التحرك بسرعة لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر الى يثرب.
أما كيفية الإغتيال فقد اقترحها أبو جهل بن هشام في اجتماع رفيع المستوى عقده زعماء قريش في دار الندوة في مكة. قال لهم: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إن فعلوا ذلك تفرق دمهم في القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فرضوا منا بالعقل (أي بالدية) فعقلناه لهم. (9)
جمع طغاة قريش الشبان المكلفين بالمشاركة في الإغتيال، ثم مضوا في تنفيذ خطتهم. تحركت كتيبة الإغتيال ذات ليلة فأحاطت ببيت النبي صلى الله عليه وسلم في جنح الظلام، وبقوا ينتظرون منامه ليهجموا عليه ويقتلوه. غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى مقدمهم وعرف مقصدهم، وكان قد خطط للهجرة من ليلته تلك، فطلب من ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينام في فراشه، وطمأنه بأنه لن يصيبه مكروه.
لم يتردد علي لحظة واحدة في الموافقة على الطلب، فهو كان مؤمنا صادق الإيمان، وشجاعا من أشهر الشجعان. وطلب النبي صلى الله عليه وسلم من علي أيضا أن يبقى بعده في مكة أياما ليرد أمانات وضعها عدد من الناس عنده. ما أعجب أمر كثير من كفار قريش: كانوا يكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يقوله عن ربه، ويرفضون القبول برسالة الإسلام، وفي نفس الوقت كانوا يضعون أماناتهم عنده لأنهم يعرفون صدقه وأمانته وما شهدوا عليه كذبا قط.
ثم تحرك النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه وحماية من ربه وخرج من بيته، رغم وجود المهاجمين الذين يحاصرونها. أخذ النبي حفنة من التراب في يده، ونثرها في ثبات وشجاعة على رؤوس أفراد كتيبة الإغتيال. لم يجزع منهم ولم يهبهم، وكان موقنا أن الله تعالى حافظه من كيدهم، ثم قرأ من كتاب الله عز وجل هذه الآيات:
“يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ. وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُون”. (يس: 1-9)
غشيت أبصار المهاجمين فعجزوا عن رؤية النبي وهو يغادر منزله. وعندما طال عليهم الوقت، قرروا اقتحام المنزل. رفعوا الغطاء عن الرجل الذي كان نائما مطمئنا في فراش النبي، فوجدوا عليا بن أبي طالب. وأدركوا أن خطتهم الشيطانية قد آلت إلى فشل ذريع.
أين محمد؟ أين محمد؟ كان ذاك هو سؤال السلطات القرشية بعد أن نجا النبي من محاولة الإغتيال. وبالطبع لم يكن السؤال يصدر عن نفوس أنبها ضميرها على ما سعت إليه من جريمة شنيعة، وإنما كان يصدر من أناس لم يعد لديهم رادع من عقل أو خلق أو ضمير يردعهم عن فعل الشر. كانوا يريدون إلقاء القبض على النبي حيا أو ميتا، قبل أن يهاجر إلى يثرب.
لحظات عصيبة في الغار
خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته مباشرة الى بيت صديقه أبي بكر الصديق. ومن هناك خرج الرجلان معا واختفيا عن الأنظار في غار بجبل ثور، وهو جبل من جبال مكة. كان أبو بكر قد رتب تفاصيل رحلة الهجرة مع النبي إلى يثرب على أحسن ما يكون الإعداد والترتيب، فقد كلف ابنه عبد الله بأن يرصد ما يدور في مكة من أخبار وتحركات وينقلها الى النبي كل مساء. كما كلف ابنته أسماء بتأمين الطعام. وكلف راعيه عامر بن فهيرة بالمساعدة في تأمين الغذاء وفي الحماية، واستأجر دليلا من الخبراء بالطرق الصحراوية المؤدية الى يثرب، واستوثق من كتمانه السر، وأمده بناقتين ليركبهما مع النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة.
لم ينجز أبو بكر كل هذه الترتيبات على حين غفلة أو لحظة وصول النبي إليه بعد خروجه من بيته ونجاته من مؤامرة الإغتيال. كان النبي قد خطط للأمر جيدا قبل ذلك، وتوجه مرة الى بيت صديقه أبي بكر في وقت لم يعتد زيارته فيه.
قالت عائشة أم المؤمنين: “أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها. فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا لأمر حدث. فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرج عني من عندك. فقال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، ما ذاك؟ فقال: إن الله قد اذن لي في الخروج والهجرة. فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله. قال: الصحبة. قالت (عائشة): فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ”. (10)
عندما يتأمل المرء منا في هذا الموقف فإنه لن يستغرب بكاء أبي بكر من الفرحة. مَن مِن عموم المؤمنين لن يفعل مثله لو أتيحت له فرصة مرافقة محمد صلى الله عليه وسلم، أو إبراهيم أو موسى أو عيسى أو واحد من الأنبياء الآخرين عليهم السلام جميعا في رحلة تاريخية حاسمة مثل هذه الرحلة؟
أما اختيار النبي لأبي بكر لصحبته في رحله الهجرة فدليل حاسم قاطع على أنه كان أوثق أصدقائه وأقربهم الى قلبه، وعلى أنه كان موضع ثقته الكاملة.
عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى غار ثور ليختفيا فيه فترة من الزمن، بادر أبو بكر الى الدخول ليطمئن أنه لا يوجد فيه سبع أو حية أو أي أمر آخر يهدد سلامة النبي. وبعد ساعات قليلة قضياها في الغار، جاءهما الخبر أن قريشا خصصت مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة لمن يعثر على الرسول صلى الله عليه وسلم ويلقي عليه القبض.
انتشرت فرق الطامعين في المكافأة تبحث عن خاتم الأنبياء والمرسلين، ووصل بعضهم الى مدخل الغار الذي كان يختبئ فيه مع صاحبه. قال أبو بكر يتحدث عن تلك اللحظة: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسي، فإذا أنا بأقدام القوم. فقلت: يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما”. (11)
لكن الباحثين لم يطأطئوا رؤسهم لأنهم لم يروا أثر حياة أو حركة في الغار. قال بعض الكتاب أنهم وجدوا نسيج عنكبوت وعش حمامة على باب الغار, فلم يتوقعوا أن يكون النبي وصاحبه مختفيين فيه. وحسم القرآن الكريم القول في وصف تلك اللحظات الحرجة، مبينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه كانا في حفظ الله ورعايته: “إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”. (التوبة: 40)
عرف أبو جهل بن هشام أن أبا بكر الصديق اختفى عن الأنظار أيضا فتوقع أن يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقرر أن يستنطق أهل بيته ويضغط عليهم ليدلوه عليه. مضى إليهم فوجد أسماء بنت أبي بكر، فسألها عن أبيها، فقالت إنها لا تعرف المكان الذي ذهب إليه أو اختفى فيه. واستبد الغضب بعدو الحرية والإسلام فلطم أسماء لطمة أطاحت بقرطها من أذنها، لكنها حافظت على رباطة جأشها، ولم تضعف أمامه، وكان صمودها في تلك اللحظات فصلا آخر من فصول مساهمة المرأة المسلمة في نصرة الإسلام، من خلال المساعدة في تأمين أهم رحلة من رحلات النبي صلى الله عليه وسلم، رحلة الهجرة التي رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أصبح خليفة للمسلمين أنها هي أعظم حدث في تاريخ المسلمين وقرر أن يبدأ التأريخ الإسلامي بها. وقد أصاب عمر في ذلك، ولم يعترض على رأيه أو يختلف معه أحد من المسلمين من معاصريه أو من اللاحقين.
واشتهرت أسماء رضي الله عنها أيضا باسم: ذات النطاقين، وسبب ذلك أنه عندما قرر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مغادرة الغار وركبا ناقتيهما في رحلة الهجرة، بعد فترة انتظار واختباء دامت ثلاثة أيام، لم تجد ما تضع فيه زاد الرجلين من الطعام. فلم يكن منها إلا أن شقت نطاقها نصفين، نصف لطعام الوفد المهاجر، ونصف لنفسها تنتطق به. فقيل عنها: أسماء ذات النطاقين.
قصة سراقة بن مالك
تحرك الموكب باتجاه يثرب. ركب النبي صلى الله عليه وسلم ناقته، وأردف أبو بكر معه على ناقته خادمه عامر بن فهيرة، وركب دليلهم على ناقته. هذا رجل خبير بشعاب الصحراء استأجره أبو بكر ليدلهم على أكثر الطرق أمنا ويبعد بهم عن عيون مكة.
وبعد أن قطعوا مسافة معتبرة، رآهم شخص فشك فيهم، ونقل الخبر الى جمع من مشركي قريش كانوا مجتمعين في ناد من نوادي مكة، وكان من بينهم فارس شجاع أغرته المكافأة المخصصة لمن يلقي القبض على محمد، فرغب أن يسبق اليها. إنه سراقة بن مالك.
ناقل الخبر قال للحاضرين أنه ركبا من الناس مروا به قبل قليل وإنه ليظنهم محمدا وأصحابه. وقد صدقه سراقة، لكنه أراد أن يصرف الآخرين عن منافسته على الغنيمة، فقال إنه لا مبرر لهذا الظن، وأن الذين رآهم ناقل الخبر في الصحراء قوم يعرفهم سراقة، وقد أضاعوا ناقة لهم فمضوا يبحثون عنها. وبعد قليل، غادر سراقة النادي إلى بيته، ومنها ركب فرسه واستل سلاحه، وتوجه لمطاردة النبي صلى الله عليه وسلم ومرافقيه.
كان سراقة بن مالك بن جعشم خبيرا بالصحراء ودروبها ومتخصصا في اقتفاء الاثر، لذلك لم يجد صعوبة كثيرة في التعرف على الدرب الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه. مشكلته الوحيدة التي واجهته في تلك المطاردة أن فرسه عثر به أكثر من مرة، لكنه صمم على ألا يتراجع. أخيرا، وبعد صبر ومثابرة، لاح له موكب النبي صلى الله عليه وسلم، وشعر أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى من مراده. قال سراقة يروي ما جرى في تلك اللحظات: “فلما بدا لي القوم ورأيتهم عثر بي فرسي، فذهبت يداه في الأرض، وسقطت عنه، ثم انتزع يديه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار. فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع مني وأنه ظاهر. فناديت القوم فقلت: أنا سراقة بن جعشم، انظروني أكلمكم فوالله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: قل له وما تبتغي منا؟ فقال ذلك أبو بكر. قلت: تكتب لي كتابا يكون آية بيني وبينك. قال اكتب له يا أبا بكر”. (12)
كتب أبو بكر أو خادمه كتاب أمان لسراقة باسم النبي، حفظه عنده لسنوات. وسيظهر سراقة لاحقا في موقف مؤثر ومعبر بعد فتح المسلمين وتحريرهم لمكة وفراغهم من موقعتي حنين والطائف. كان النبي محاطا بأنصاره الكثيرين، وكان سراقة يزاحمهم للوصول إليه. وها هو يروي بقية القصة: ” فرفعت يدي بالكتاب ثم قلت: يا رسول الله هذا كتابك. أنا سراقة بن جعشم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوم وفاء وبر. ادنه. (أي اقترب). فدنوت منه، فأسلمت. ثم تذكرت شيئا أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فما أذكره، إلا أني قلت: يا رسول الله، الضالة من الإبل تغشى حياضي وقد ملأتها لإبلي. هل لي من أجر في أن أسقيها. قال: نعم، في كل ذات كبد حرى أجر”. (13)
سقاية الحيوان وكل كائن يعطش من صميم الدين ويؤجر فاعلها. هكذا قال نبي الإسلام لرجل من بادية العرب قبل مئات السنين، ولو أن كلمته أذيعت وروجت في كثير من أماكن النزاع بين القبائل على الماء والمرعى في عالمنا المعاصر لتجنبت البشرية حروبا كثيرة سيئة لا ضرورة لها. أما قوله “يوم وفاء وبر” فتلخيص لمسيرة حياته ولتعاليم دينه: الوفاء بالعهد والوعد من صميم الدين. والبر بالناس، أي معاملتهم بأفضل وأرقى أساليب التعامل من صميم الدين أيضا.
نجا موكب النبي صلى الله عليه وسلم من عيون قريش وحراسها. سلك به الدليل عبد الله بن أرقط طريقا لم تعتده قريش، فاتجه أولا إلى الساحل غربا، ثم اتجه شمالا نحو يثرب. ومع كل مسافة يقطعها الركب في الإتجاه المطلوب، كانت مكة تبعد وتتوارى عن ناظري النبي ومن معه. مكة التي ولد فيها، ورضع في باديتها، وحضر أهم مجالسها منذ صغره مع جده عبد المطلب. مكة التي تعرف فيها على أحب النساء إليه وتزوجها وبنى معها عائلة متماسكة سعيدة. مكة التي اشتهر فيها بالصدق والأمانة. مكة التي فرحت به يوم دخل عليها من باب المسجد ينقذها من حرب أهلية بسبب التنافس حول من يضع الحجر الأسود في مكانه من البناء الجديد للكعبة. مكة التي نزل فيها عليه الوحي من رب العالمين. مكة التي جهر فيها بدعوة الإسلام وتحمل ما لقيه من أذى زعمائها المشركين المستبدين بصبر نادر.
مكة كانت حياته. وها هو اليوم، وقد بلغ الثالثة والخمسين من عمره، يجد نفسه مضطرا لفراقها ومغادرتها، مع أنها أحب البلاد الى الله وأحب البلاد الى نفسه، وإنه ليخاطبها بذلك كأن رمالها وجبالها وبيوتها تسمعه وهو يلقي عليها سلام من فرض عليه خيار الهجرة: والله إنك لأحب أرض الله إلى الله. وإنك لأحب أرض الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت.
أما في يثرب فقد كان الناس ينتظرون مقدم رسول الله وخاتم النبيين بفارغ الصبر. روى ابن اسحاق في السيرة بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم قولهم: لما سمعنا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وتوكفنا (أي وتوقعنا، أو: وانتظرنا) قدومه، كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال، فإذا لك نجد ظلا دخلنا، وكان ذلك في أيام حارة”. (14)
ولم يطل انتظار أهل يثرب كثيرا. ففي منتصف نهار يوم الإثنين، الثاني عشر من ربيع الأول، في العام الأول للهجرة، الموافق لعام 623 للميلاد، وصل محمد رسول الإسلام صحبة رفيقه أبي بكر الصديق الى قباء، وهو حي لا يبعد اليوم إلا بضع كيلموترات عن قلب يثرب. وقد آن الآن أن نستخدم الإسم الجديد ليثرب، الإسم الذي اختاره لها أهلها والمسلمون عامة بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إليها: المدينة. وأغلب الناس والكتاب يضيفون لاسم المدينة لقب المنورة، لأنها استنارت وأنارت من نور النبي صلى الله عليه وسلم، ومن نور الحق الذي جاء به من عند ربه، ليخرج الناس من عبادة الأصنام الى عبادة الله وحده، وليهديهم الى ما فيه فوزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
(1) ـ سيرة ابن هشام. الجزء الثاني. مصدر سابق. ص 54
(2) ـ المصدر السابق. ص 55
(3) صحيح البخاري. الجزء الرابع. مصدر سابق. ص 247
(4) ـ سيرة ابن هشام. الجزء الثاني. مصدر سابق. ص 58
(5) ـ المصدر السابق. ص 59
(6) ـ سيرة ابن هشام. الجزء الثاني. مصدر سابق. ص 63
(7) ـ المصدر السابق. ص 67
(8) ـ سيرة ابن هشام. الجزء الثاني. مصدر سابق. ص 87
(9) ـ المصدر السابق. ص 91
(10) ـ المصدر السابق. ص 93
(11) ـ صحيح البخاري. الجزء الثاني. مصدر سابق. ص 337
(12) ـ سيرة ابن هشام. الجزء الثاني. مصدر سابق. ص 97
(13) ـ المصدر السابق. ص 97
(14) ـ المصدر السابق. ص 98
0 comments on “الفصل الرابع من كتاب الدكتور محمد الهاشمي الحامدي: السيرة النبوية للقرية العالمية ـ طبع أول مرة عام 1996”