عنوان هذا الفصل ـ الدولة الإسلامية الأولى: دستور للعدل وعهد لحقوق الإنسان
وصل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى المدينة المنورة وبدأت صفحة جديدة من تاريخ الإسلام وتاريخ البشرية. أقام خاتم النبيين في قباء أياما قليلة بنى فيها أول مسجد للمسلمين، ثم قرر التوجه الى وسط المدينة وقلبها. وفي الطريق القصير بين الموقعين، تنافست قبائل المدينة وعشائرها على استضافته. اعترضت طريقه وفود كثيرة، أعيان كل وفد يطلبون منه أن يشرفهم بالإقامة عندهم ويعدونه بضمان كل وسائل الراحة والأمن وأكرم الضيافة له. والنبي الذي لا يريد أن يحابي قبيلة على أخرى، أو أهل حي على أهل حي آخر، يقول لهم جميعا: خلوا سبيل الناقة فإنها مأمورة. وكان ممن اعترض طريقه من الراغبين في استضافته أخواله في دار بني عدي بن النجار. قالوا له: يا رسول الله، هلم إلى أخوالك، إلى العدد والعدة والمنعة. وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم أخواله بما أجاب به الآخرين: خلوا سبيلها (أي الناقة) فإنها مأمورة. أين ستقف الناقة يا ترى؟
أين ستقف الناقة يا ترى؟ وهل تعرف ما يدور في نفوس الناس من حولها، وبالشرف التاريخي العظيم الذي يمكن أن تجلبه لأي واحد منهم لو توقفت في أرضه أو أمام داره؟ بعد طول انتظار، توقفت الناقة عن السير في قطعة أرض يجفف فيها التمر وسط المدينة. لم ينزل عنها النبي فعادت وتحركت قليلا، ثم عادت إلى نفس المكان وبركت فيه. عندئذ نزل عنها النبي صلى الله عليه وسلم وسأل عن المكان. قال له رجل عارف بالجواب اسمه معاذ بن عفراء: هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتيمان لي، وسأرضيهما منه، فاتخذه مسجدا. قبل النبي الإقتراح وأمر ببناء المسجد، وأقام في الأثناء في بيت قريب يملكه أبو أيوب الأنصاري.
هكذا اختار الله عز وجل أن ينال ولدان يتيمان شرف احتضان بيت النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد النبوي الشريف، ذات المسجد الذي بقي بعد ذلك منارة للتوحيد وشرائع الإسلام ومكارم الأخلاق على مدار القرون، ومازال مقصدا عظيما لملايين المسلمين الذين يزورونه كل عام ويأتونه من كل أنحاء العالم.
استغرق بناء مسجد الرسول وبيته عدة أشهر، اكتملت خلالها هجرة المسلمين من مكة المكرمة، وعم فيها الإسلام بيوت المدينة المنورة إلا بعض العائلات القليلة من الأوس بقي أهلها مشركين.
ونقل المؤرخون خطبتين ألقاهما الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الفترة، خلال إمامته لصلاة الجمعة، تمكنان الباحث من معرفة القيم التي حرص خاتم النبيين على ترسيخها في نفوس سكان عاصمته الجديدة.
قال في الخطبة الأولى: “أيها الناس، فقدموا لأنفسكم. تعلمن والله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلغك؟ وآتيتك مالا وأفضلت عليك؟ فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يمينا وشمالا فلا يرى شيئا. ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم. فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل. ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (1)
جوهر هذه الخطبة أن الإنسان قادر دائما على أن يتصدق ويعطي مهما كان فقيرا بالمعايير المادية المجردة. نبي الإسلام يقول لكل إنسان، في كل زمان ومكان، إنه يستطيع تجنب النار ودخول الجنة بصدقة قوامها نصف تمرة. لا حاجة حتى لتمرة واحدة إذا كان المرء فقيرا ولا يملكها. كلمة طيبة تكفي، وأجرها يبدأ من عشرة أضعاف الى سبعمائة ضعف في ميزان الله. إن قدرة الإنسان على العطاء أصيلة فيه وجزء من تكوينه، لا يمكن أن تصادرها منه ظروف مادية صعبة أو سياسات متعسفة.
وفي الخطبة الثانية من خطب النبي معان أخرى تكشف المزيد عن هدي الإسلام ومكانة الحب فيه كرابطة جميلة بين الإنسان وخالقه.
قال محمد رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم: “إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى. قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس. إنه أحسن الحديث وأبلغه. أحبوا ما أحب الله. أحبوا الله من كل قلوبكم. ولا تملوا كلامه وذكره. ولا تقس عنه قلوبكم. لإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي. وقد سمى (2) الله خيرته من الأعمال ومصطفاه من العباد، والصالح من الحديث، ومن كل ما أوتي الناس الحلال والحرام. فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا. واتقوه حق تقاته. واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم. وتحابوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن ينكس عهده، والسلام عليكم”. (3)
أحبوا الله من كل قلوبكم وتحابوا بروح الله بينكم. تلك هي رسالة المحبة التي جاء بها النبي الى أهل المدينة المنورة، وإلى المسلمين، وإلى الناس في كل زمان ومكان. وتلك هي رسالة النبي الذي تآمر عليه طغاة قريش ليقتلوه بعد سنوات من الحصار والتعسف والإرهاب، ولكنه نجا منهم الى المدينة المنورة. لا مكان في قلب النبي للحقد، ولا مكان للحقد في قلب كل مسلم يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
أصبحت المدينة مركز المشروع الإسلامي بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم وعاصمة لكيانه الروحي والسياسي الجديد، أو بعبارة مختصرة: للدولة الإسلامية الوليدة. ومع ميلاد الدولة، بدأ بعد جديد من أبعاد شخصية النبي في البروز: إنه بعد القائد والحاكم والزعيم السياسي.
وبعد بناء المسجد في قباء، ثم بناء المسجد النبوي الشريف في قلب المدينة، اتجه اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم لوضع الأساس الدستوري والقانوني للدولة الجديدة، وتأسيس قاعدة واضحة للتكافل والتضامن الإجتماعي بين المسلمين.
دستور نادر المثال
بعد شهور قليلة من الهجرة النبوية، كانت البشرية كلها على موعد مع أول دستور مبني على قيم العدل وحقوق الإنسان، لأول دولة متعددة الأديان في التاريخ.
دستور المدينة وثيقة تاريخية نادرة المثال، تم الإعلان عنه بعد اكتمال هجرة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه الى المدينة، وبعد أن أصبح للمسلمين دولتهم المستقلة، وهي دولة تحتاج الى نظام أساسي تقوم عليه، يبين الأسس العامة التي تحكم مواطنيها وقبائلها. كان النظام الإجتماعي السائد في المدينة وفي الجزيرة العربية آنذاك مبنيا على الأعراف القبلية بالأساس: القبيلة تحمي أفرادها، وتدافع عن مصالحها سياسيا وعسكريا إن لزم الأمر، وشيخها هو الحاكم في أمورها، يساعده في الحكم أعيان القبيلة وزعماؤها الآخرون. وكان في المدينة أيضا عدد من القبائل اليهودية. بعضهم جاء قبل مئات السنين من فلسطين، وبعضهم من أبناء المدينة أصلا اعتنقوا اليهودية على أيدي اليهود المهاجرين.
فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم حاكما وزعيما للمدينة المنورة، وأصبح الإسلام قاعدة النظام الثقافي والإجتماعي والسياسي فيها، جاء الدستور الجديد، في صيغة عهد وميثاق كتبه النبي لأهل المدينة، لحماية الحقوق الأساسية لسكانها من جميع القبائل، ومن المسلمين واليهود، ولتنظيم العلاقة بينهم، ولكفالة الحرية الدينية لليهود وحماية أموالهم وممتلكاتهم.
وفيما يلي بنود هذا العهد، أو هذا الدستور، أو هذا الميثاق، أو هذه الصحيفة، وكل هذه أسماء يجوز إطلاقها على هذه الوثيقة، وقد جعلت بنود الدستور في أبواب منفصلة، واخترت عنوانا لكل باب، اجتهادا مني بغرض تسهيل فهم معانيه الرئيسية:
الباب الأول: المسلمون أمة واحدة
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس.
الباب الثاني: دور القبيلة في إقامة العدل وفداء الأسرى
المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم (أي أسيرهم) بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم (دياتهم المخصصة لفداء القتلى) الأولى، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى, وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
الباب الثالث: واجب التكافل الإجتماعي
وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم (المفرح هو المثقل بالدين كثير العيال) أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.
الباب الرابع: تحريم الظلم والوقوف في وجه الظالم
وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم.
ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن.
وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.
الباب الخامس: عهود المسلمين في السلم والحرب واحدة ومتحدة
وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم. وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا.
وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.
وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.
وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن.
الباب السادس: تحريم مناصرة أو إيواء القاتل والظالم
وإنه من اعتبط مؤمنا (أي من قتله) قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثا (ظالما مرتكب جريمة) ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده الى الله عز وجل، والى محمد صلى الله عليه وسلم.
الباب السابع: المسلمون واليهود أمة
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وانفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ (يلحق الأذى والضرر) إلا نفسه، وأهل بيته.
وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.
وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف.
إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف.
وإن البر دون الإثم.
وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.
وإن بطانة يهود كأنفسهم.
وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم.
وإنه لا ينحجز على ثار جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظلم.
وإن الله على أبر هذا. ( أي أن الله يرضى بهذه العهود والحقوق)
الباب الثامن: علاقة المسلمين باليهود مبنية على التناصر والنصيحة والبر
وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم.
وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
وإنه لم يأثم أمرؤ بحليفه.
وإن النصر للمظلوم.
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.
الباب التاسع: تحريم الظلم في المدينة وتأكيد حقوق الجار
وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
الباب العاشر: حسم الخلافات بالعودة لله والرسول
وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده الى الله عز وجل، والى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن الله على اتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.
الباب الحادي عشر: التحالف العسكري بين المسلمين واليهود في وجه قريش
وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها.
وإن بينهم (بين المسلمين واليهود) النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا الى صلح يصالحونه وتلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه.
وإنهم إذا دعوا الى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.
وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة.
الباب الثاني عشر: الصدق وأحسن الأخلاق أساس الدستور
وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه.
وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم.
وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم.
وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. (4)
عهد عالمي لحقوق الإنسان
بعد عرض دستور الدولة الإسلامية الأولى في التاريخ مبوبا ومفصّلا، أستأذن القراء الكرام في التوقف عند بعض أهم المبادئ والقيم التي تضمنها:
1 ـ المسلمون أمة واحدة، سواء كانوا من أبناء المدينة، وقد أصبحوا يسمون الأنصار من باب نصرتهم للنبي ودعوة الإسلام، أو كانوا من المهاجرين من مكة ومن غير مكة. أغنياء المسلمين مطالبون بدعم فقرائهم وتحمل أعبائهم المالية الضرورية عند الحاجة، ويشمل ذلك فداءهم من الأسر إن اقتضى الأمر. وهم من الجانب السياسي والقانوني جبهة موحدة، موقفهم واحد ضد الظالم والمجرم من بينهم، لا يحمونه ولا يدعمونه، ويتكاتفون من أجل تطبيق العدالة بحقه. يسالمون كأمة واحدة ويحاربون كأمة واحدة، بناء على موقف جماعي ملزم. وإن أجار واحد منهم لاجئا، كما كانت عادة القبائل آنذاك، فإن موقفه يلزم البقية، من باب التقدير والإحترام لكافة أفراد هذه الأمة.
2 ـ البر في اللغة العربية أحسن الأخلاق وأفضل وجوه المعاملة للناس. وهذا هو ما نص عليه الدستور أو عهد محمد رسول الله الى القبائل اليهودية في المدينة. ويدخل في وجوه البر أن ينصر المسلمون واليهود بعضهم بعضا، وأن يتناصحوا، وأن ينصروا المظلوم ويقفوا في وجه الظالم.
وبالإضافة إلى ذلك كله ينص عهد النبي على أن المسلمين واليهود أمة واحدة بالمعنى السياسي، وأن لكل من الطرفين حق النصرة والحماية على الطرف الآخر، وأنهما يتعاونان في حماية المدينة في وجه كل من يستهدفها بعدوان.
3 ـ وضع عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة التزامات أخرى على أمة المسلمين واليهود، من أبرزها اعتبار المدينة أرضا مقدسة يحرم فيها الظلم والعدوان، وتكريم الجار ورعاية حقوقه على أساس أن الجار كالنفس، وهذه مرتبة للجار لا تعلوها مرتبة في أي ميثاق أو عهد آخر في التاريخ. وفي العهد أيضا تأكيد على ألا يعاقب الفرد أو القبيلة بجريمة حليف من الحلفاء.
4 ـ حدد الدستور بشكل واضح الجهة التي تعتبر خطرا على أمة المسلمين واليهود في المدينة. إنها قريش التي تزعمت جبهة الشرك والإستبداد، والتي قمعت الإسلام وأتباعه في مكة، وخططت لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنها تخطط الآن لاستهداف المركز الإسلامي الجديد في المدينة المنورة. وبناء على ذلك تضمن عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة من المسلمين واليهود بنودا واضحة تمنع أي ساكن من سكان المدينة، وأي قبيلة من قبائلها، من أن تتحالف مع قريش أو من يناصر قريشا، لأن ذلك يعني إعلانا للحرب على الدولة الإسلامية، ومساهمة في الجهود الرامية للقضاء على الإسلام واستئصاله من جذوره.
هذه عهود الإسلام ونبيه في القرن الهجري الأول، الموافق للنصف الأول من القرن الميلادي السابع، فمن يا ترى من المؤرخين يستطيع أن يستخرج من تراث العهود والمواثيق في تلك المرحلة التاريخية وثيقة دستورية أكثر حرية وديمقراطية وتسامحا والتزاما بمكارم الأخلاق مما جاء في دستور المدينة؟
الجواب العلمي والموضوعي الوحيد: لا توجد أية وثيقة دستورية مماثلة.
فإذا تجاوزنا تلك المرحلة التاريخية ونظرنا في سائر المواثيق والدساتير والعهود المعاصرة، وقارنا ما جاء فيها إلى ما جاء في دستور المدينة، ألا يعتبر دستور المدينة معلما رائدا ورئيسيا في تراث مواثيق حقوق الإنسان العالمية؟
الجواب العلمي والموضوعي الوحيد: نعم، وبامتياز أيضا.
إخوة في العقيدة
بعد تحديد هذا الإطار الدستوري الهام، ركز النبي صلى الله عليه وسلم على تعزيز وحدة الجبهة المسلمة. فقد جاء إلى المدينة مهاجرون كثر من مكة ومن مناطق أخرى، ومعروف أن تزايد عدد اللاجئين في مدينة عدد سكانها محدود قد يحدث ردود فعل سلبية أحيانا، وربما صدامات عنيفة، كما يحدث في مناطق كثيرة من عالمنا في هذا العصر.
أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه من الأنصار والمهاجرين بأن يتآخوا في الله أخوين أخوين. فأصبح أبو بكر الصديق وخارجة بن زهير أخوين، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين، وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ أخوين، وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت أخوين، ومصعب بن عمير وأبو أيوب خالد بن زيد أخوين، وحمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة أخوين. واختار النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه عليا بن أبي طالب أخا له. وكان علي رضي الله عنه قد بقي في مكة بعد هجرة الرسول منها ثلاثة أيام، أعاد فيها الأمانات والودائع التي كانت عند النبي لأصحابها، ثم هاجر الى المدينة.
قائمة الذين دخلوا في هذه المؤاخاة طويلة، وقصتهم تشير الى أحدثته العقيدة الجديدة في نفوس المؤمنين بها من أثر كبير. لقد تغيرت الموازين والأولويات عند أتباع محمد صلى الله عليه، وأصبحت أخوة العقيدة والفكرة مقدمة عندهم على أخوة العائلة والقبيلة. وقد مدح القرآن الكريم هذا السلوك في هذه الآيات الكريمة:
“لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون. وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم”. (الحشر: 8-10)
لم يبخل الأنصار من أهل المدينة بشيء عندهم على إخوانهم الجدد، لكن المهاجرين لم يكونوا حملا ثقيلا، وإنما دخلوا السوق وعملوا وبدأوا سريعا في كسب رزقهم من جهدهم وعرق جبينهم. وبذلك نجح المسلمون من المهاجرين والأنصار في اختبار تاريخي نادر، وأكدوا أن الإنسان قادر دائما على أن يجعل المبادئ النبيلة مقدمة على المغانم والمصالح الفردية. أما سر النجاح فتربية مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم، وتوجيه مستمر من القرآن الكريم يذكرهم جميعا بالميزان الصحيح للأشياء، كما في هذه الآيات الكريمة:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون. وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِين. وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون”. (المنافقون: 9-11)
وكما في هذه الآيات الكريمة أيضا:
“مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم. الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون”. (البقرة: 261-262)
نداء الصلاة في الإسلام
كانت الإجراءات والترتيبات تتوالى وتتكامل لتنظيم الحياة الروحية والسياسية في أول دولة إسلامية على وجه التاريخ. بدأت هذه الإجراءات أولا ببناء المسجد ليكون الموقع المركزي في قلب المدينة، يؤمه المسلمون للصلاة خمس مرات في اليوم، ولحضور الإجتماعات الهامة التي يدعو إليها النبي صلى الله عليه وسلم. ثم جاء عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة من المسلمين واليهود، وهو كما فصلت القول فيه قبل قليل دستور مبني على قيم الإيمان والحرية واحترام التعددية الثقافية والدينية. بعد ذلك، تم اعتماد نظام نادر للتكافل الإجتماعي بين المسلمين عبرت عنه المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، كما أعلنت الزكاة فريضة على المسلمين وركنا أساسيا من أركان الإسلام.
أضيف إلى هذه الترتيبات كلها أمر جديد آخر يخص أسلوب الدعوة الى الصلاة في مسجد الرسول وفي كل مساجد الإسلام بعد ذلك. كان المسلمون يعرفون مواعيد الصلوات الخمس بقياس حركة الشمس، ولم تكن الساعات التي تضبط الوقت قد اخترعت بعد، ففكر النبي صلى الله عليه وسلم في اعتماد وسيلة تنبه المؤمنين إلى أوقات الصلاة، وسيلة شبيهة بالوسائل السائدة عند أهل الكتاب من اليهود أو النصارى، أي باعتماد بوق مكبر للصوت، أو ناقوس ينبه المؤمنين لمواقيت الصلاة ويدعوهم لأدائها في المسجد.
لكن واحدا من أصحابه، ويدعى عبد الله بن زيد، رضي الله عنه، جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال له إنه رأى في المنام رجلا علمه صيغة جديدة في الدعوة للصلاة. ما هي هذه الصيغة؟ قال عبد الله بن زيد إن الرجل الذي رآه في المنام أوصاه بالمناداة للصلاة بنداء يتضمن العبارات الآتية: الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة. حي على الصلاة. حي على الفلاح. حي على الفلاح. الله أكبر الله أكبر. لا إلاه إلا الله.
انشرح صدر النبي لرؤيا عبد الله بن زيد وقال له: إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها، فإنه أندى صوتا منك. (5)
بلال بن رباح رضي الله عنه سيد من سادات المسلمين واسم لا يمحى من ذاكرة كل مسلم. إنه رمز الدور المركزي للرجل الأسود في تبني دعوة الإسلام ونصرتها، ونشر ما فيها من قيم الحرية والمساواة. وها هو النبي صلى الله عليه وسلم يقدمه على صاحب رؤيا الأذان عبد الله بن زيد، ويشيد بصوته الندي، ويعطيه شرف أن يكون مؤذنه وأول مؤذن في تاريخ الإسلام. ولاشك أن مسلمين آخرين كثر تمنوا لو نالوا هذا الشرف. لكن النبي صلى الله عليه وسلم حسم الأمر لبلال.
سمع عمر بن الخطاب بلالا يؤذن للصلاة بصوته الجميل، وعرف برؤيا عبد الله بن زيد، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد على ذلك. (6)
وفي منتصف العام الثاني للهجرة، أصبح المسجد الحرام في مكة المكرمة قبلة المسلمين في الصلاة من بعد أن كانوا يتوجهون إلى بيت المقدس. تغيرت القبلة بأمر من الله وعز وجل، ونزل في ذلك وحي كريم:
“وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون. كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُون. فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُون”. (البقرة: 150-152)
هكذا، وخلال عامين اثنين فقط بعد الهجرة، ظهرت معالم الدولة الإسلامية الأولى بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم. دولة أساسها الإيمان بالله تعالى وإفراده بالعبادة من دون شريك، ولها قوانينها المبنية على العدالة وحرية العقيدة، ولها سياستها الإجتماعية القائمة على الزكاة والتكافل والتضامن بين فئات المجتمع. كان النبي صلى الله عليه وسلم مؤسس هذه الدولة وقائدها وزعيمها، لكنه لم يتوقف لحظة واحدة عن أداء مهمته الأساسية، وهي تبليغ رسالة خالق الناس لعباده أجمعين. فكان يتلقى الوحي ويقرأ القرآن الكريم للناس، ويرد على أسئلة الباحثين عن الحق والهدى، وأيضا على أسئلة بعض الخصوم الباحثين عن الجدال وتسجيل النقاط وليس عن الحق والهدى.
الجامعة المفتوحة في المدينة المنورة
أصبحت المدينة المنورة بهذا المعنى مركزا للنور الجديد الطامح إلى تحرير العقل البشري من العبودية للأصنام والخرافة والأوهام، وأصبح مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم جامعة مفتوحة يتربى ويتعلم فيها جيل جديد من الناس، ألقيت عليهم مسؤولية مساعدة النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ شريعة التوحيد والعدل والحرية للناس أجمعين.
وكان معلم هذا الجيل هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إنسان متواضع كريم، آتاه الله من مكارم الأخلاق، ومن الحكمة وجوامع الكلم، ومن مقومات الزعامة والتأثير في النفوس، ما جعله القدوة الأمثل للمسلمين في حياته، وللمسلمين على امتداد الزمان بعد مماته.
أعباء بناء الدولة الجديدة كانت كثيرة وضخمة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بقي في المقام الأول معلما ومربيا للناس، أو كما وصف القرآن الكريم مهمته:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيرا. وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيرا. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرا. وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا”. (الأحزاب: 45-48)
كان مما ركز عليه النبي صلى الله عليه وسلم في توجيهاته للمؤمنين أن تكون محبة الله راسخة في القلب، وأن تنشأ العبادة عن محبة وإخلاص، وليس عن رياء وتظاهر ونفاق. وفهم المسلمون من نبيهم صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى لا يحب إلا العمل الخالص لوجهه، لأن الدين كله مبني على الصدق، وعلى الصدق وحده. أما أولئك الذين يبدون تدينا ظاهريا بقصد الحصول على امتيازات معنوية أو مادية من البشر، فإن الله لا يعبأ بتدينهم.
روى النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوما قصة معبرة تدل على ما يمكن أن يصل إليه الإنسان بصدق إيمانه وبإخلاصه الكامل لله. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر فمالوا إلى غار في الجبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم. فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا عملتموها لله صالحة فادعوه الله لعله يفرجها.
فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم. فإذا رحت عليهم فحلبت، بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي. وإنه ناء بي الشجر، فما أتيت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب. فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي. فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر. فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء. ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء.
وقال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء, فطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار. فسعيت حتى جمعت مائة دينار فلقيتها بها. فلما قعدت بين رجليها قالت: يا عبد الله، اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه. فقمت عنها. اللهم فإن كنت تعلم أني قد فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها. ففرج لهم فرجة.
وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفرق أرز. فلما قضى عمله قال أعطني حقي، فعرضت عليه حقه فتركه ورغب عنه. فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا وراعيها. فجاءني فقال: اتق الله ولا تظلمني وأعطني حقي. فقلت اذهب الى ذلك البقر وراعيها. فقال اتق الله ولا تهزأ بي. فقلت إني لا أهزأ بك، فخذ ذلك البقر وراعيها، فأخذه فانطلق بها.
فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج ما بقي. ففرج الله عنهم”. (7)
وبالإضافة الى قيمة العمل المخلص لله، تضمنت القصة إشادة واضحة ببر الوالدين، وبالعفة، وبالأمانة، وكلها قيم يحتاجها الفرد الصالح ويحتاجها المجتمع الصالح.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أن أبواب رحمة الله مفتوحة دائما لعباده، لا تغلق أبدا أمام من آمن بربه وقصده وحده لا يشرك به شيئا. ويتضمن الحديث الشريف الآتي للنبي صلى الله عليه وسلم قصة تعبر عن هذا المعنى بوضوح:
” كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب. فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة؟ فقال: لا. فقتله فكمل به مئة.
ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم فقال: إنه قتل مئة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ أنطلق الى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع الى أرضك فإنها أرض سوء.
فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت. فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه الى الله تعالى. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط. فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم ـ أي حكما ـ فقال: قيسوا ما بين الأرضين, فإلى أيتهما كان أدنى فهو له, فقاسوا فوجدوه أدنى الى الأرض التي أراد, فقبضته ملائكة الرحمة”. (حديث متفق عليه) (8)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في جامعته المفتوحة أن يكونوا كرماء وألا يبخلوا في التصدق والعطاء مما آتاهم الله من فضله، ويعلمهم أن شكر الله سبحانه وتعالى على نعمه يكون في وجه رئيسي منه بمساعدة المحتاجين. وضرب لهم مثلا على ذلك ذات مرة بقصة من تراث بني اسرائيل. قال عليه الصلاة والسلام:
“إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى أراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس، فمسحه فذهب عنه قذره وأعطى لونا حسنا. فقال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل ( أو قال البقر ـ شك الراوي) فأعطى ناقة عشراء فقال: بارك الله لك فيها.
فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك. قال: شعر حسن، ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس، فمسحه فذهب عنه وأعطى شعرا حسنا. قالك فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطى بقرة حاملا وقال: بارك الله لك فيها.
فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله بصري فأبصر الناس، فمسحه فرد الله إليه بصره. قال: أي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطى شاة والدا.
فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم. ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيرا أتبلغ به في سفري. فقال: الحقوق كثيرة. فقال: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر. فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله الى ما كنت.
وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد هذا. فقال إن كنت كاذبا فصيرك الله الى ما كنت.
وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين وأبن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري, فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك,، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري؟ فقال: قد كنت أعمى فرد الله الي بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فو الله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله عز وجل. فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك” متفق عليه. (9)
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يربي المسلمين على أن الرحمة واجبة للإنسان والحيوان، وقد روى لهم مرة هذه القصة:
“بينما رجل يمشي بطريق أشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني, فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له” قالوا: يا رسول الله, إن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: “في كل كبد رطبة أجر” متفق عليه. (10)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس أن الله يفرح بتوبة الإنسان ويكافئه على العبادة والطاعة، من دون أن يحوجه لوسيط. قال لهم مرة في تأكيد هذا المعنى في حديث قدسي رواه عن ربه عز وجل: “إذا تقرب العبد إلي شبرا تقربت إليه ذراعا. وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا. وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة”. (11)
وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوما: “أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا. فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار”. (12)
هذه نماذج من القيم والأخلاق التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه والناس جميعا في كل زمان ومكان، وهي قيم تزرع في القلوب والعقول، ويعبر عنها المؤمنون بها في سلوكهم الإجتماعي.
مناظرات دينية ونزاعات داخلية
قامت الدولة الإسلامية الأولى في التاريخ على دستورها المشهور الذي نظم العلاقة بين المسلمين واليهود على أساس التحالف السياسي والعسكري والبر والتناصح ورفض الظلم. لكن الإحتكاك بين أهل الأديان المختلفة سنة من سنن التاريخ، وخاصة في التاريخ القديم، والحفاظ على السلم و النظام في مجتمع متعدد الديانات ليس دائما أمرا سهل التحقيق، كما تثبت تجارب الشعوب السابقة والمعاصرة.
وقد ظهرت بعض وجوه المنافسة والإحتكاك والصدام الخفي بين بعض المنتمين للديانتين منذ الشهور الأولى للهجرة. كما دارت مناظرات حول العقيدة وتاريخ الأديان بين النبي وعدد من علماء يهود المدينة وأحبارهم. ودارت مناظرات أخرى مشابهة بينه وبين بعض علماء المسيحية الذين زاروه في وفد قدم من نجران في اليمن. وسيؤثر هذا الإحتكاك على علاقة الطرفين في المستقبل، وعلى تحالفاتهم السياسية، وهو عامل من العوامل المهمة في فهم ما عرضه القرآن الكريم من مساجلات مع آراء وأطروحات لشخصيات يهودية في المدينة المنورة، ولشخصيات مسيحية أيضا.
دخل الإسلام من الأحبار اليهود المشهورين عبد الله بن سلام. قال متحدثا عن إسلامه: “لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له (أي نتوقعه)، فكنت مسرا لذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. فلما نزل بقباء، في بني عمرو بن عوف، أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة. فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت.
فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: خيبك الله. والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت. فقلت لها: أي عمة، هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه، بعث بما بعث به. فقالت: اي ابن أخي، أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ فقلت لها: نعم. قالت: فذاك إذن. قال: ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي، فأمرتهم فأسلموا”. (13)
وأسلم حبر آخر يسمى مخيريق وقاتل مع النبي في غزوة أحد فنال الشهادة فيها. لكن الأغلبية من أحبار اليهود لم يسلكوا طريق عبد الله بن سلام، وتمسكوا بدينهم، ورفضوا الإعتراف بالإسلام. ومع أن الإحتكاك بين الطرفين وصل حد الحرب أحيانا، إلا أن القاعدة الإسلامية في التعامل مع المخالفين في الدين من اليهود والمسيحيين في حالة السلم، وهي الأصل بين الناس، بقيت واحدة لم تتغير: احترام حق الإختلاف، وتقدير أهل الكتاب، ومناقشتهم بالتي هي أحسن، ومعاملتهم بالبر والقسط، وكفالة حرياتهم الدينية. هذه هي القاعدة التي تحكم علاقات المسلمين باليهود وبالمسيحيين في كل مكان، في الماضي والحاضر والمستقبل.
مؤامرات المنافقين
في أقل من عامين أصبح المهاجرون والأنصار صفا متماسكا قادرا على مواجهة التحديات المحيطة بأول دولة إسلامية. ومع أن كفار قريش وطغاتها كانوا هم العدو الأول للمسلمين، فإن دولة المدينة نفسها كانت تواجه مكائد ومؤامرات من الداخل، وخاصة من كتلة جديدة ظهرت على مسرح الأحداث سميت في التاريخ بكتلة المنافقين. وهؤلاء أفراد مؤثرون أسلموا ظاهريا، ولكن قلوبهم كانت تبطن العداوة والبغضاء للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته.
من أشهر المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول. كان زعيما بارزا من زعماء المدينة قبل وصول النبي إليها، مقبولا من الأوس والخزرج، وكان الناس قد شرعوا فعلا في إعداد تاج من الخرز ليضعوه فوق رأسه ويعلنوه ملكا عليهم، لكنهم توقفوا وانصرفوا عن الفكرة عند انتشار الإسلام في صفوفهم وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بلادهم. ولاشك أن عبد الله بن أبي كان أبرز المتضررين من التحول الكبير الذي شهدته المدينة، لكنه اضطر للدخول في الإسلام لما رأى أن أغلبية السكان آمنت به.
انكشف ضيقه بالإسلام وبالنبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبة، أشهرها عندما توقف النبي صلى الله عليه وسلم مرة ليسلم عليه في مجلس من مجالسه.
كان النبي صلى الله عليه وسلم قاصدا زيارة أحد زعماء المدينة، سعد بن عبادة، يعوده ويطمئن عليه بعد مرض أصابه. وفي طريقه مر بعبد الله بن أبي متصدرا مجلسا من مجالسه بحضور عدد من الناس.
استحى النبي صلى الله عليه وسلم أن يمر على المجلس دون أن يسلم على عبد الله بن أبي وبقية الحاضرين، فتوقف وسلم وجلس قليلا، وتلا آيات من القرآن الكريم، وتحدث عن فضائل الإسلام ورغب الناس فيه وحذر المعرضين عنه. كل هذا وزعيم المجلس صامت لا يتكلم. “حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقالته، قال: يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقا، فاجلس في بيتك فمن جاءك له فحدثه إياه، ومن لم يأتك فلا تغته به (أي لا تثقل به عليه)، ولا تأته في مجلسه بما يكره منه. فقال عبد الله بن رواحة في رجال كانوا عنده من المسلمين: بلى فاغشنا به، وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا، فهو والله مما نحب، ومما أكرمنا الله به وهدانا له”. (14)
مضى الرسول صلى الله عليه وسلم لشأنه يزور صديقه سعد بن عبادة، وحدثه بما سمع من عبد الله بن أبي، فقال سعد: “يا رسول الله ارفق به. فوالله لقد جاءنا الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه. فوالله إنه ليرى أن قد سلبته ملكا”. (15)
ولو كان حزب المنافقين محصورا في عبد الله بن أبي وحده لكان أمره هينا، ولكن الحقيقة أنه كان يضم عددا مقدرا من الناس، مما أوجب على المسلمين أن يكونوا أكثر حيطة وحذرا في تحصين دولتهم والدفاع عن أنفسهم. وهذا أيضا ما يفسر نزول سورة كاملة في القرآن الكريم عنهم، عنوانها سورة المنافقون (السورة 63)، بالإضافة إلى آيات أخرى كثيرة تتطرق الى شأنهم في العديد من السور الأخرى، منها مثلا هذه الآيات الكريمة في سورة البقرة:
“وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِين. يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُون. فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُون. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُون. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُون. وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون. اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون. أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين”. (البقرة: 8-16)
كان المنافقون حلفاء موضوعيين للعائلات القليلة التي بقيت على الشرك في المدينة المنورة، وكان رهانهم الإستراتيجي هو أن تنجح قريش ومن سيقف معها في حروبها المرتقبة ضد الإسلام في سحق الدعوة الجديدة وقتل النبي صلى الله عليه وسلم وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الهجرة.
مؤامرة فاشلة
ومن وقائع تلك الفترة من تاريخ الإسلام والمسلمين أن أحد سكان المدينة من غير المسلمين أوشك أن يحدث فتنة كبيرة بين الأنصار. معروف أن الأنصار ينتمون الى قبيلتين أساسيتين هما الأوس والخزرج، وأن الحروب بين القبيلتين كانت وجها بارزا لتاريخهما المشترك وتاريخ المدينة، وهي حروب لم تعد على أصحابها بأي خير، وإنما أفنت رجالهم، وبددت طاقاتهم وثرواتهم في منازعات عبثية لا يوجد لها أي مبرر حقيقي مقنع بميزان الحق والعقل. ومن أشهر هذه الحروب حرب يوم بعاث، وهي حرب انتصر فيها الأوس على الخزرج.
وقف أحد خصوم المسلمين يوما في مجلس من المجالس العامة التي يحضرها عدد كبير من الأنصار وذكر يوم بعاث بتفصيل وتوسع، واستفز السامعين ليعودوا الى انتمائهم القبلي الأول.
تطورت الأمور بسرعة مع استثارة العصبيات القديمة فبدأ بعض الحاضرين من الأوس يفتخرون بما حققوه في ذلك اليوم ورد عليهم بعض الخزرج، وكبر النزاع، إلى درجة تبادل التهديدات بإشعال حرب جديدة. وانتهى الأمر بالحاضرين من الأوس والخزرج أن يتواعدوا فعلا على اللقاء في حرب جديدة بينهما في مكان يسمى الظاهرة، ثم انصرف كل منهم يحضر سلاحه، ثم يخرج الى المكان المحدد للحرب.
وصل الخبر الى النبي صلى الله عليه وسلم فتحرك فورا صحبة عدد من المهاجرين الى حيث الموقع المقترح للمعركة، ثم نادى في الناس: “يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذ به من الكفر وألف بين قلوبكم؟”. (16)
أنصت الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج لنداء النبي فاستيقظوا من غفلتهم، وأدركوا أنهم كانوا على وشك الإنخراط في حرب لن يفرح لها إلا الشيطان، ومن بعده الذين يريدون انقسام الصف المسلم على نفسه وانخراطه في حروب داخلية عابثة لا مبرر لها. وتذكر بعضهم أن حرب يوم بعاث والحروب التي سبقتها لم تكن هي أيضا إلا نتاجا لجاهلية حقيقية في التفكير والنظر إلى الأمور. إذ ما معنى أن يتخذ الناس من حماسهم لانتمائهم القبلي مبررا للعدوان على الآخرين؟ وماذا كان المشاركون في تلك الحروب يجنون منها غير فقد الأحباب وغير الجراح والخسائر المادية والمعنوية الباهظة؟
فأية مصلحة لمسلمي الأوس أو الخزرج في العودة الى تلك الأيام الجاهلية البغيضة، من بعد أن جاء الإسلام وعلمهم أن أفضل النسب للإنسان في أي مكان في العالم هو العمل الصالح، وألغى الحزازات والأحقاد من قلوبهم، وحولهم إلى إخوان وأصدقاء متحابين متضامنين؟
وصل النداء المختصر والمباشر للنبي صلى الله عليه وسلم الى العقول والقلوب فردها عن السقوط في درك العنف والفوضى والجاهلية من جديد، وبكى الرجال الذين جاؤوا متحفزين للحرب من الأوس والخزرج، وعانق بعضهم بعضا، والتفوا جميعا حول النبي صلى الله عليه وسلم عائدين معه ممتنين له مطيعين لتعاليمه.
ثم نزل القرآن الكريم من عند الله يذكر المسلمين بنعمة الإيمان التي شملتهم، وكانت سببا لاتحادهم والتأليف بين قلوبهم، ، ويدعوهم الى التضامن في مجال الحث على الخير والفضيلة، ومحاصرة الشر والفساد، ويذكرهم بالغيب، وأن حسابات الدنيا ليست كل شيء في الوجود، لأن الآخرة أيضا تنتظر الإنسان، والعاقل من يستعد لها أحسن استعداد. قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون. وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم. يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُون. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون. تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِين. وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُور”. (آل عمران: 102-109)
هذه هي رسالة القرآن الكريم وهذه هي رسالة الإسلام في كل زمان ومكان. رسالة التقوى والوحدة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتطلع إلى رحمة الله عز وجل ومرضاته. غير أن بعض الناس أغلقوا قلوبهم وعقولهم في وجهها، قديما وحديثا. وكان من بين هؤلاء قادة قريش في تلك الفترة التي نزلت فيها هذه الآيات الكريمة. كان عداؤهم للإسلام قويا، وكانوا يمكرون به ويتآمرون على أهله، كما سنرى في الفصول المقبلة.
(1) ـ المصدر السابق. ص 105
(2) ـ استخدمنا هنا عبارة سمى، وهي تعني في سياق الخطبة حدد، أو اختار، أو اصطفى. وهي بهذا المعنى أوفق وأنسب ضمن نص الخطبة من عبارة “سماه” الموجودة في الأصل في سيرة ابن هشام.
(3) ـ المصدر السابق. ص 106-107.
(4) ـ سيرة ابن هشام. الجزء الثاني. مصدر سابق. ص 106-108
(5) ـ سيرة ابن هشام. الجزء الثاني. مصدر سابق. ص 112
(6) ـ المصدر السابق.
(7) ـ صحيح البخاري. الجزء الرابع. مصدر سابق. ص 47-48
(8) ـ د. صبحي الصالح. منهل الواردين شرح رياض الصالحين. (بيروت: دار العلم للملايين: 1970. الطبعة العاشرة). حديث نبوي متفق عليه. ص 56-57
(9) ـ المصدر السابق. ص 95-97
(10) ـ المصدر السابق. ص 133
(11) ـ المصدر السابق. ص 117
(12) ـ المصدر السابق. ص 202
(13) ـ سيرة ابن هشام. الجزء الثاني. مصدر سابق. ص 118
(14) ـ المصدر السابق. ص 168
(15) ـ المصدر السابق.
(16) ـ سيرة ابن هشام. مصدر سابق. ص 147
0 comments on “الفصل الخامس من كتاب الدكتور محمد الهاشمي الحامدي: السيرة النبوية للقرية العالمية ـ طبع أول مرة عام 1996”