عنوان هذا الفصل: جراح مؤتة
بعد العودة من عمرة القضاء، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عدة سرايا تدعو إلى الإسلام وتؤمن دولته من كيد المتربصين بها. حتى إذا كان الشهر الخامس من العام الهجري الثامن، جاءت الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن رسوله إلى حاكم بصرى في الشام، الحارث بن عمير الأسدي، اعتقل وقيد بالحبال ثم قتل على يدي شرحبيل بن عمرو الغساني، والي منطقة البلقاء في الشام بأمر من قيصر، زعيم الإمبراطورية الرومانية.
قتل الرسل والمبعوثين علامة على خسة فاعليها ونذالتهم، واستهتارهم بالأعراف العالمية السائدة، وهو يعني أيضا بوجه من الوجوه إعلان حرب من الجهة المعتدية على دولة المبعوث المقتول. هكذا فهم النبي صلى الله عليه وسلم خبر اغتيال مبعوثه إلى حاكم بصرى، وقرر الرد عليه سريعا، لئلا يفهم قتلة مبعوثه في الشام أن المدينة صيد سهل لهم ويشنوا عدوانا عسكريا سريعا ضد الدولة الإسلامية.
تمثل الرد في قرار النبي صلى الله عليه وسلم بتجهيز حملة عسكرية تتجه إلى الشام للرد على رسالة هؤلاء المعتدين المستهترين بالأعراف والأخلاق والحرمات في الشام، ولردعهم عن الإنخراط في هجوم ضد المدينة المنورة، وللتأكيد لهم ولغيرهم بأن الدولة الإسلامية جديرة بالإحترام والمهابة والتقدير.
تجمع لهذه الحملة ثلاثة آلاف رجل، وهو عدد كبير بالقياس إلى حملات المسلمين السابقة، ولم يجتمع مثله إلا عند التصدي لتحالف الأحزاب التي هاجمت المدينة في العام الخامس للهجرة وسعت لاستئصال الإسلام وأهله مرة واحدة بالقوة العسكرية الغاشمة. وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم لواء القيادة لزيد بن حارثة، الرجل الذي عاش في بيت النبي صلى الله عليه وسلم منذ صغره، وفضل البقاء معه على العودة إلى أهل بيته. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتولية ابن عمه جعفر بن أبي طالب على الحملة إن أصيب زيد، ثم عبد الله بن رواحة إن أصيب زيد وجعفر.
وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يأتوا الناس الذين قتلوا مبعوثه الحارث بن عمير فيدعونهم للإسلام. فإن أبوا وتطور الأمر إلى الحرب والقتال، فإن الرسول نهاهم عن أمور عدة في توجيهات صريحة. قال لهم: “لا تغدروا، ولا تغيروا، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة، ولا كبيرا فانيا، ولا منعزلا بصومعة، ولا تقطعوا نخلا، ولا شجرة، ولا تهدموا بناء. (1)
كان واضحا أن هذه الحملة باتجاه الشام ليست مثل الحملات الأخرى باتجاه القبائل المحيطة بالمدينة. فالشام آنذاك محتل من قبل الإمبراطورية الرومانية بزعامة قيصر، وهي واحدة من أعظم قوتين عالميتين في ذاك التاريخ. ولكن المسلمين كانوا على درجة عالية من الجرأة والشجاعة، بسبب إيمانهم القوي بربهم، وثقتهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم. وقد بكى عبد الله بن رواحة، وقد كان شاعرا مرهف الحس، في لحظات الوداع ومغادرة المدينة، بسبب تذكره للإمتحان الكبير يوم القيامة والخوف من النار، وليس بسبب حب الدنيا وحب أهله وأصحابه. وهو جاء يودع النبي صلى الله عليه وسلم فأنشد في محبته:
فثبت الله ما آتاك من حسن
تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
إني تفرست فيك الخير نافلة
الله يعلم أني ثابت البصر
أنت الرسول فمن يحرم نوافله
والوجه منه، فقد أزرى به القدر
كان ذلك الجيل جيلا فريدا بحق في تاريخ الإنسانية. جيل تقبل الإسلام عن اقتناع وحرية، وأيّد خاتم الأنبياء بقوة وثقة ويقين، آمن به وبمن سبقه من الأنبياء والرسل الكرام، وقدم التضحيات الهائلة الكبيرة من أجل الإسلام ومن أجل حرية العقيدة والدعوة وكرامة الإنسان، ومن أجل كل المبادئ الفاضلة التي سعى في نشرها نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم من الأنبياء والمرسلين. وتدل سيرة ذلك الجيل على أن الإيمان الراسخ يقود إلى الشجاعة العالية، وهما معا وصفة لا نظير لها من أجل تغيير التاريخ والإنتصار للقيم النبيلة والمبادئ التحررية.
هذه الوصفة غيرت نظرة أصحابها للموت وبينت وأوضحت معنى الشهادة. إنهم كانوا طلاب حياة وحرية وكرامة، وقد أدركوا أن هذه القيم تستحق أن يضحي الإنسان من أجلها بنفسه إن لزم الأمر، لأن الحياة من غير إيمان وحرية وكرامة، وتحت سيطرة الطغاة والظالمين، حياة ذليلة ليس لها قيمة عند الأحرار في كل زمان ومكان.
هكذا ينبغي أن يفهم الباحث في تاريخ السيرة النبوية، وفي تاريخ جميع الأنبياء، شجاعة المؤمنين واستعدادهم للشهادة، أي للتضحية بحياتهم من أجل الإيمان والحرية والكرامة. لقد أصبحت الشهادة بهذا المعنى عندهم مغنما وفوزا عظيما، لا كربا أو كارثة يتهرب منها الإنسان، علما بأن المؤمن موقن كل اليقين أن الأعمار بيد الله، وأن الإنسان لن يعيش دقيقة أقل أو أكثر مما كتبه الله له، وهو يعلم أيضا أنه سيلقى ربه بعد الموت، ويعرف كرامة الشهداء عند الله، والله سبحانه وتعالى لا يخلف وعده.
تلك كانت دوافع المشاركين في حملة مؤتة. وقد ساروا شمالا حتى وصلوا منطقة معان وعسكروا فيها. أما الروم فقد وصلت إليهم الأنباء بتحرك المسلمين، وكان هرقل في المنطقة، وتحت تصرفه مائة ألف مقاتل في جيش الروم، وبعد حملة تعبئة عامة، وصلت إليه تعزيزات بمائة ألف مقاتل آخرين من مناطق لخم وجذام والقين وبهراء.
مائتا ألف جندي في مواجهة ثلاثة آلاف.
وصل الخبر إلى المسلمين في معان، فأقاموا ليلتين يفكرون في خياراتهم، ورأى بعضهم أن من الأفضل أن يكتبوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبروه بالفرق الهائل في عدد الجيشين، فإما أن يمدهم بالمدد من الرجال، وإما أن يأمرهم بخيار آخر فيمضون في تنفيذه.
لكن عبد الله بن رواحة لم يتحمس لهذا الرأي، وقال للناس: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة. ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة. واستمر النقاش حتى مالت أكثرية المسلمين لرأي عبد الله بن رواحة.
هؤلاء جيل عاش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأوه بأنفسهم يخوض معهم أشرس المعارك، ويشاركهم أصعب الأوقات. متواضع لهم، محب لهم، رحيم بهم، يمشي بينهم بأجمل الأخلاق وأفضلها. وهؤلاء جيل لم تكن عنده ذرة شك بأنه يرفع راية الحق والإيمان التي رفعها ابراهيم وموسى وعيسى وعامة الأنبياء وأنصارهم في مراحل كثيرة في تاريخ الإنسانية. ومع أن الخوف طبع في الإنسان، والحرص على الأمن وعلى الدنيا طبع في الإنسان، فإن الإيمان الصادق القوي يجعل محبة الله فوق محبة الدنيا وما فيها.
تقدم جيش المسلمين من جديد نحو منطقة البلقاء حتى بدا لهم جيش هرقل، وفيه مائتا ألف أو أكثر من الروم والعرب. فانحاز المسلمون إلى قرية تسمى مؤتة، وبها سميت هذه المعركة كلها.
هناك تجهز المسلمون للحرب، فاختاروا لميمنتهم قطبة بن قتادة من بني عذرة، ولميسرتهم عبادة بن مالك من الأنصار، ثم التقى الجيشان والتحم الناس واشتد بينهم القتال. وسرعان ما فاز قائد الحملة زيد بن حارثة بالشهادة، بعد أن نالته رماح الأعداء من كل مكان.
حمل الراية بعدئذ جعفر بن أبي طالب، وكان فتى يبلغ من العمر ثلاثة وثلاثين عاما، فقاتل مع جنده ببسالة نادرة. أصابه الأعداء في يده اليمنى فحمل الراية بيسراه. ثم أصابوه في يسراه فاحتضنها بعضديه. ثم أصابته ضربة قاضية فقطعته نصفين. وكان القائد الشجاع يهتف ببيت جميل من الشعر قبل انتقاله إلى الدار الآخرة:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وباردا شرابها
وكان ممن حضر هذه المعركة عبد الله بن عمر، نجل الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب. فقال: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب، فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية. (2)
استشهد جعفر، وحان الآن دور القائد الثالث، الشاعر ذو النفس الحساسة المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والخائفة من عذاب النار يوم القيامة. حان دور عبد الله بن رواحة، فهو الثالث في الترتيب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم انطلقت الحملة، لكن هول المعركة، وعدم تكافؤ ميزان القوى بشكل صارخ لحساب الأعداء، جعل نفسه تتردد بعض الشيء. كانت لحظة تشهد بإنسانية أولئك الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى علت رايات التوحيد والخير والعدل والحرية في الجزيرة العربية ثم في أكثر أرجاء العالم. إنهم لم يكونوا ملائكة، وإنما كانوا بشرا مثل سائر البشر، لكن قوة الإيمان سمت بهم إلى مقامات عالية في تاريخ الإنسانية.
هتف عبد الله بن رواحة الشاعر يخاطب نفسه المترددة في حمى وطيس تلك المعركة الخطيرة:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه
مالي أراك تكرهين الجنة
قد طال ما قد كنت مطمئنة
هل أنت إلا نطفة في شنه؟ (3)
ثم قال عبد الله بن رواحة أيضا يحث نفسه على التشبه بالقائدين الشهيدين من قبله:
يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت إن تفعلي فعلهما هديت
واقترب من عبد الله ابن عم له بعظم عليه بعض اللحم ودعاه أن يأكله ويشد به صلبه، فما أن نال منه قطعة يسيرة حتى سمع جلبة كبيرة في ناحية من ساحة المعركة، ورأى القتال على أشده بين المسلمين وأعدائهم، فرمى العظم وخاطب نفسه: وأنت في الدنيا؟ ثم تقدم ثابت الجأش يقاتل دفاعا عن عقيدة الحق حتى فاز بالشهادة.
تطوع لرفع اللواء بعد استشهاد عبد الله بن رواحة ثابت بن أقرم من بني العجلان، ونادى في المسلمين أن يتفقوا على قائد جديد ينوب عن القادة الثلاثة الذين استشهدوا، فقالوا له: أنت. لكنه لم يقبل ترشيحهم، فاصطلحوا على قائد آخر، حديث عهد بالإسلام، ولكن اسمه مشهور في ساحات المعارك من قبل، وسيغدوا لاحقا واحدا من أشهر القادة الحربيين في تاريخ الإسلام والإنسانية.
قصة اسلام خالد وعمرو بن العاص
قال عمرو بن العاص يروي قصة إسلامه وإسلام هذا القائد الكبير:
لما انصرفنا عن الخندق، قلت لأصحابي إنني أرى أمر محمد يعلو علوا منكرا، وإني قد رأيت أن ألحق بالنجاشي، فإن ظهر على قومنا كنت عند النجاشي، وإن ظهر قومنا على محمد فنحن من قد عرفوا. فقالوا له: إن هذا (هو) الرأي. قال: فجمعنا له، أي للنجاشي، أدما كثيرا هدية، وخرجنا إلى النجاشي، فإنا لعنده إذ وصل عمرو بن أمية النضري رسولا من النبي صلى الله عليه وسلم في أمر جعفر وأصحابه. فدخلت على النجاشي وطلبت منه أن يسلم إلي عمرو بن أمية لأقتله تقربا إلى قريش بمكة. فلما سمع النجاشي كلامي غضب وضرب أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فخفته. ثم قلت: والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه. قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي لموسى لتقتله؟ قلت: ايها الملك، أكذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو، أطعه واتبعه فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنده. فقلت: فبايعني له على الإسلام. فبسط يده فبايعته، ثم خرجت إلى أصحابي وكتمتهم إسلامي، وخرجت عائدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقيني خالد بن الوليد وذلك قبل الفتح، وهو مقبل من مكة، فقلت: أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد استقام المنسم (أي لقد تبين الطريق ووضح). إن الرجل لنبي. أذهب والله أسلم، فحتى متى؟ فقلت: ما جئت إلا للإسلام. فقدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم، فتقدم خالد بن الوليد فأسلم، ثم دنوت فأسلمت، وتقدم عثمان (بن أبي طلحة العبدري) فأسلم. (4)
لكل من هؤلاء الرجال الثلاثة مكانة مميزة في تاريخ الإسلام. لكن اسم خالد بن الوليد سيظل محفورا بقوة ووضوح نادرين في تاريخ العسكرية الإسلامية، وفي تاريخ القادة العسكريين من كل الأمم. هذا هو نفسه القائد الذي التف على المسلمين يوم أحد، وحول نصرهم الباهر إلى هزيمة موجعة. وهو الذي كان يتحرش بهم في غزوة الحديبية. وعندما جاء إلى المدينة مسلما، تحدث عن هذا الماضي أمام النبي صلى الله الله عليه وسلم فأرشده إلى أن الإسلام يجب ما قبله.
خالد يقود المسلمين في مؤتة
وفي تلك الأجواء الحالكة المخيمة على مؤتة، حيث كان ثلاثة آلاف مسلم يتصدون لجيش عرمرم من مائتي ألف مقاتل، مدججين بكل أنواع الاسلحة، وقد استشهد قادتهم الثلاثة الذين أوصى بهم النبي صلى الله عليه وسلم، تولى الراية خالد بن الوليد. فما هو فاعل يا ترى؟
أدرك خالد بسرعة أن موازين القوى مختلة إلى حد كبير جدا، وأن القوة الإيمانية الهائلة للمسلمين ستعينهم على الصمود لا على الإنتصار. ورأى أن تقليل الخسائر وتوفير الطاقات الإسلامية ليوم آخر تكون فيه الظروف أفضل هو الخيار الأحكم والأصوب، فاستمر يناوش العدو حتى أقبل الليل، وانقطعت في يده تسعة سيوف وهو في قلب المعركة حتى لم تبق بيده إلا صحيفة يمانية. ومن بعد ذلك اعتمد عدة مناورات عسكرية خادعة لإعطاء الإنطباع بأنه تلقى تعزيزات إضافية، مما أدخل الرعب والمهابة في نفوس أعدائه، ثم غير مواقعه ليبتعد تدريجيا عن الإلتحام بهم. ولما اطمأن إلى أن العدو لا يطارد قواته، انسحب من المعركة وعاد ببقية جيشه إلى المدينة المنورة.
قبل أن يصل الجيش إلى المدينة، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما جرى، وقال لهم: أخذ الراية زيد وأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم. (5)
اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطة العسكرية التي اعتمدها خالد بن الوليد فتحا من الله على المسلمين. وقال عن خالد: إنه سيف من سيوف الله. وقد سمعت مرة في مجلس من مجالس الأدب والثقافة في الرياض، عام 1431 هجرية، 2010 ميلادية، من أحد الباحثين والمؤرخين أن في هذا الوصف ذاته آية أخرى من آيات صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. لقد خاض خالد ابن الوليد رضي الله عنه عددا كبيرا من المعارك العسكرية، وأصيب في كثير منها بالسهام والسيوف والرماح، لكنه انتصر في جميعها تقريبا، ولم يقتل، ومات في فراشه، لأنه سيف من سيوف الله. والنتيجة أنه لم يغمد هذا السيف أحد من البشر، وإنما أغمده الله سبحانه وتعالى بوفاة خالد بن الوليد.
عندما عاد خالد ومن معه إلى المدينة، منسحبين من مؤتة، حز ذلك في نفوس بعض المسلمين، فجعلوا يحثون التراب على الجيش العائد ويقولون: يا فرار، فررتم في سبيل الله؟ عندئذ دافع النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه عن خالد وجنده، وقال: ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى.
الفرار من ساحات الدفاع عن الإيمان والحق والحرية عمل شنيع لا يقبل به أي جيش في العالم، قديما أو حديثا. والقرآن الكريم يتوعد من يرتكب مثل هذا العمل: “ومن يولهم يومئذ دبره، إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة، فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير”. (6)
لذلك قال النبي مجيبا على من سأله من جيش خالد: نحن الفرارون يا رسول الله؟ قال: بل أنتم الكرارون. وقال لهم: أنا فئتكم، أي أن خالدا ومن معه تحيزوا لفئة إمامهم، ولم يهربوا جبنا أو خوفا. وذكر أن عمر بن الخطاب، في عهد خلافته، علق على استشهاد أبي عبيد بن مسعود وعدد من أصحابه في بعض معارك القادسية، عندما صمدوا في معركة غير متكافئة وكان بوسعهم الإنسحاب، وقال: هلا تحيزوا إلينا، فإنا فئة لكل مسلم. (7)
كانت مؤتة إذن فصلا محزنا من فصول المعارك التي جرت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها استشهد ثلاثة من أعلام الصحابة الذين أخلصوا للإسلام وصمموا على أن يعيشوا حياتهم في ضوء حقيقة الإيمان الكبرى وأن يقضوا أيامهم في الدعوة إلى توحيد الله ومحبته وطاعته.
استشهد جعفر، لكن صوته في ديوان النجاشي مازال يرن في سمع كل مسلم على وجه الأرض، فقد كان ناطقا بليغا موفقا باسم المسلمين في كل زمان ومكان، وكان يوم اشتدت الحرب فارسا شجاعا نبيلا يتقدم الصفوف ويعلم أن الدنيا ليست نهاية المطاف في مشير الإنسان.
واستشهد زيد بن حارثة، وهو الذي علم كل من لم يعش مع رسول الله من المسلمين وغير المسلمين أن خلق محمد بن عبد الله في مقام رفيع يدفع المرء إلى أن يفضله على أبيه وأقرب الناس إليه.
واستشهد عبد الله بن رواحة، ذو النفس الشاعرة الأبية الحساسة، مصارعا نوازع الضعف التي تعتري كل بشر ويقود نفسه إلى المعالي، وبقيت ذكراه الحبيبة الغالية في نفوس مئات الملايين من البشر على مدى التاريخ، يحبونه، ويبجلونه، ويقتدون به وبأصحابه الكرام الشهداء.
كانت مؤتة امتحانا عسيرا وعابرا في نفس الوقت، حسم النبي أمرها عندما مدح سيف الله المسلول خالد بن الوليد، ووصف جيشه بالكرارين. إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينظر بنور الله، ويعرف أن جيش الإيمان والحق سينتصر في مواقع أخرى كثيرة وإن أصابته نكسة محزنة في مؤتة. وقد أثبت الوقائع صحة ما قاله.
- ـ صفي الرحمن المباركفوري: الرحيق المختوم. مصدر سابق. ص 287-288
(2) ـ صحيح البخاري. الجزء الثالث. ص 58
(3) ـ الرنة صوت يشبه البكاء، والنطفة هي الماء القليل الصافي، والشنة هو السقاء البالي، والقصد تصوير قصر العمر.
(4) ـ أبو بكر جابر الجزائري: هذا الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا محب. دمنهور، مصر: مكتبة لينة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1991. ص379-380
(5) ـ صحيح البخاري. الجزء الثالث. ص 58
(6) ـ القرآن الكريم. سورة الأنفال: 16
(7) ـ سيرة ابن هشام. الجزء الرابع. ص 17
0 comments on “الفصل الثاني عشر من كتاب الدكتور محمد الهاشمي الحامدي: السيرة النبوية للقرية العالمية ـ طبع أول مرة عام 1996”