عنوان هذا الفصل: تحرير مكة، الإنتصار الحاسم
بين بني بكر وخزاعة ثارات قديمة يرجع تاريخها إلى ما قبل ظهور الإسلام. عدت خزاعة يوما من أيام الجاهلية على تاجر من بني الحضرمي يدعى مالك بن عباد فقتلته وأخذت ماله، فرد بنو بكر بقتل رجل من خزاعة. ثم انتقمت خزاعة بقتل عدد أشراف بني بكر عند أنصاب الحرم، هم سلمي وكلثوم وذؤيب بنو الأسود بن رزن الديلي. ثم نزل الوحي من السماء على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وجاءه التكليف بنشر رسالة الإسلام، فانشغل الناس بالدعوة الجديدة، منهم من أيدها ومنهم من حاربها، وهدأت نزاعات بني بكر وخزاعة إلى حين.
وعندما تم توقيع صلح الحديبية بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش، جرى الإتفاق على أنه من أحب أن يدخل في عقد المسلمين دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش دخل فيه. فدخلت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه، وتحالفت بنو بكر مع قريش ودخلت في عقدها.
دخلت الهدنة حيز التنفيذ وصمدت أكثر من عام، لكن عددا من أهل المكر من بني الديل من بني بكر أرادوا أن يغتنموها فرصة ويثأروا للثلاثة الذين قتلتهم خزاعة قبل ظهور الإسلام من بني الأسود بن رزن الديلي. وتآمر هؤلاء بعضهم مع بعضهم وخرجوا في جماعة يقودها نوفل بن معاوية الديلي، فداهموا قوما من خزاعة وهم عند نقطة ماء لهم تسمى الوتير، وقتلوا منهم رجلا، واشتعلت الحرب بينهم.
تفاقمت الأمور وزادت سوءا لأن قريشا لم تبق على الحياد، ولم تحترم بنود صلح الحديبية، وإنما نصرت بني بكر بالسلاح وشارك عدد من رجالها في القتال بالليل خفية. أما خزاعة فقد انهزمت وتراجع مقاتلوها، حتى حاصرهم المهاجمون وألجؤوهم إلى الحرم. تردد بعض المهاجمين من بني بكر لما رأوا أهل خزاعة يحتمون بالحرم، وقالوا لزعيمهم: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك. لكن الرجل لم يكن مستعدا للتوقف عن عدوانه لأي مبرر، فرد على أنصاره: كلمة عظيمة. لا إله له اليوم. يا بني بكر أصيبوا ثأركم. (1)
وهكذا نال بنو بكر من خزاعة بدعم مادي وبشري من قريش، في نقض صريح لبنود صلح الحديبية. ورأت خزاعة أن انضمامها إلى عقد النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها الحق في طلب النصرة والحماية منه. وبالفعل، سرعان ما وصل عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة يستنجد ويستغيث، وقد دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد بين أصحابه، فعرض عليه ما لحق بخزاعة من الظلم في أبيات شعرية، والشعر ديوان العرب، وعنوان بلاغتهم وفصاحتهم، وهو مؤثر عندهم وعند أكثر أمم الأرض.
قال عمرو يسمع النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه من المسلمين في المسجد:
يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولدا وكنا والدا ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا إن سيم خسفا وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا وسجدا
وجاء الرد سريعا وحاسما من الأمين راعي العهود وخاتم المرسلين: نصرت يا عمرو بن سالم. وأرسلت خزاعة وفدا رسميا بعد أيام قليلة بقيادة بديل بن ورقاء، فتحدثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما تعرضوا له من عدوان بني بكر ومن مشاركة قريش في العدوان، ثم انصرفوا عائدين إلى ديارهم.
كانت قريش تتوقع استغاثة خزاعة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تدرك أنها فعلت ما لم يكن ينبغي لها أن تفعله بمقتضى صلح الحديبية، فتشاور زعماؤها على عجل، وقرروا إيفاد أبي سفيان بن حرب، أشهرهم وأكثرهم نفوذا ومقاما، إلى المدينة المنورة، للتفاوض مع المسلمين وتجديد العمل بالصلح. وكان هذا هو تماما ما توقعه النبي صلى الله عليه وسلم وما قاله لأصحابه عندما استقبل بديل بن ورقاء ومن معه من وفد خزاعة: “كأني بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ويزيد في المدة”. (2)
توجه أبو سفيان إلى المدينة موفدا من قريش التي أدركت سوء ما صنعته بنقض العهد، وفي الطريق في عسفان، التقى ببديل بن ورقاء وصحبه وهم عائدون إلى مكة، فسألهم من أين أقبلوا، وقد شك في أنهم كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون دعمه، فنفى بديل ذلك وأخفى ما فعل. ولما افترق الوفدان، نظر أبو سفيان في فضلات راحلة بديل، فوجد فيها النوى، وعندئذ أيقن أن الرجل سبقه إلى المدينة المنورة.
أبو سفيان في المدينة المنورة
اتجه أبو سفيان إلى عاصمة الدولة الإسلامية الأولى في التاريخ، الدولة التي كان واحدا من أشرس أعدائها، لكنه لم يكن يخشى الأذى، فهو رسول من قريش إلى رسول الله، وزعيم من زعماء الجزيرة العربية يخاطب قوما يلتزمون بأصول التعامل ومكارم الأخلاق. وفي المدينة، اتجه أولا إلى بيت ابنته أم حبيبة رضي الله عنها، أم المؤمنين، بصفتها إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وأوشك أن يجلس على فراش النبي لولا أن بنته سحبته عنه. قال أبو سفيان مستغربا: “يا بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر.
خرج أبو سفيان ولقي النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه، لكنه لم يرد عليه بشيء. فانطلق منه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه يطلبه أن يتدخل له عند النبي صلى الله عليه وسلم فاعتذر أبو بكر. سأل أبو سفيان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما سأله من أبي بكر فرد عليه: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به.
فكر أبو سفيان في شخصية بارزة أخرى يمكن أن تتوسط له، فاتجه إلى علي بن أبي طالب، فوجده مع زوجته فاطمة، رضي الله عنهما، بنت النبي صلى الله عليه وسلم، ومعهما ابنهما الحسن وهو طفل صغير. قال أبو سفيان: يا علي، إنك أمسّ القوم بي رحما، وإني قد جئتك في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائبا، فاشفع لي إلى رسول الله. فأجاب علي: ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. ورأى أبو سفيان أن يغتنم فرصة وجود بنت النبي صلى الله عليه وسلم فيخاطبها في نفس الموضوع، قال: يا بنت محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت أم الحسن: والله ما بلغ بني ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن أبواب الوسطاء تغلق أمام أبي سفيان واحدا بعد الآخر. لقد ولت أيام نصره في أحد، وأيام كان قائدا لحملة الأحزاب يهدد المسلمين بالاستئصال. دارت الأيام وانهار معسكر الكفر والظلم والطغيان وتضعضعت أركانه، وها هو اليوم يبحث عن قشة أمل في المدينة المنورة، وقد أيقن أن عاقبة الغدر ونقض العهود خسارة محققة له ولحزبه.
قال أبو سفيان: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني. أجاب علي: والله ما أعلم لك شيئا، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكني لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس، إني أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره وانصرف عائدا إلى مكة.
هناك كان قادة قريش ينتظرونه على أحر من الجمر، ويسألونه ماذا فعل. قال أبو سفيان: جئت محمدا فكلمته، فوالله ما رد علي شيئا، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرا. ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى العدو. ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم، وقد أشار علي بشيء صنعته فوالله ما أدري هل يغني ذلك شيئا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك. قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت. قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلك، والله إن زاد الرجل على أن لعب بك فما يغني عنك ما قلت. قال: لا والله، ما وجدت غير ذلك. (4)
المشركون في قريش وجلون خائفون من عاقبة غدرهم ونقضهم للعهد. والمسلمون في المدينة يحيون ركنا من أركان الإسلام الخمسة، فقد دخل عليهم شهر رمضان، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وصيامه فرض على كل مسلم، إلا أن يكون مريضا أو على سفر، فإن له أن يفطر ثم يصوم الأيام التي أفطرها في وقت لاحق.
رمضان شهر عزيز على المسلمين، فيه يدعون طعامهم وشرابهم اليوم كله محبة لله وطاعة له. وفيه أنزل الوحي على نبي الإسلام في ليلة القدر، ليلة خير من ألف شهر. وفيه انتصار بدر الذي قلب الموازنات بين معسكر الحرية والإيمان ومعسكر الكفر والطغيان. ولكن الإنتصار الذي ناله المسلمون في هذا الشهر المبارك من العام الثامن للهجرة، سيكون حدثا عظيما ونصرا حاسما وعلامة فارقة في تاريخ الإسلام والإنسانية.
لقد صمم النبي صلى الله عليه وسلم على نصرة خزاعة كما يقتضي ذلك دخولها في حلفه، وتحرير مكة المكرمة من وصاية المشركين والمستبدين، وإعادتها إلى دورها الذي قامت به في العهود الأولى من تاريخ بني البشر، منارة للتوحيد والهدى والنور، بعد أن جدد إبراهيم واسماعيل عليهما السلام بناء الكعبة في رحابها وطهرا البيت العتيق للطائفين والعابدين والركع السجود.
أبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخبر فتلقوه بهمة وجد، وشرعوا في الإستعداد لمعركة فتح مكة، واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كل ما يمكن من الإحتياطات الأمنية لضمان عدم تسرب أخبار خطته إلى الأعداء، ودعا الله قائلا: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. (5)
قصة حاطب بن أبي بلتعة
لكن حسابات خاطئة من واحد من المسلمين كادت تفسد هذا الجانب من خطة النبي صلى الله عليه وسلم. فقد أراد حاطب بن أبي بلتعة، رضي الله عنه، أن يكون له فضل ومعروف عند زعماء مكة يسهم في حماية بعض أفراد عائلته المقيمين هناك إن دعت الحاجة لمثل هذه الحماية، فتطوع بكتابة رسالة إليهم تخبرهم بعزم النبي صلى الله عليه وسلم على التوجه نحوهم، وأعطى الرسالة لامرأة فقيرة، وأعطاها أجرا على إيصالها إلى قادة قريش.
قطعت المرأة مسافة معتبرة من الطريق والرسالة مخبأة في ما تغطي به رأسها من ثياب، لكن النبي صلى الله عليه وسلم تلقى من الوحي ما يعلمه بأمرها، فوجه إليها على عجل عليا بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما وأمرهما باللحاق بها واسترجاع الرسالة. ولحق الفارسان الشهيران بالمرأة، فأنكرت أول الأمر ثم اعترفت وأعطتهما الجواب.
انكشف أمر حاطب بن أبي بلتعة كأسوأ ما يكون الإنكشاف، وعندما ناداه النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عما دفعه إلى كشف سر المسلمين لعدوهم، قال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرؤا ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم.
سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما قال حاطب فلم يقتنع بمبرراته، وكان جالسا قرب النبي، فقال: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق. لكن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رأيا آخر، ووقع في قلبه صدق ما عرضه حاطب من مبررات وإن كانت لا تبرر هذا العمل الخياني بأي وجه من الوجوه، واستحضر سوابق الرجل في خدمة الإسلام، فقال: “وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر فقال اعملوا ما شئتم إني قد غفرت لكم”. (6)
الكمال لله وحده، ورسالة حاطب لم تصل إلى طغاة قريش على كل حال، والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف أن الإنسان الشجاع الكريم تمر به أحيانا لحظات ضعف وتزين له نفسه بعض التقديرات الخاطئة، والنبي الذي جاء متمما لمكارم الأخلاق لا يريد أن ينسف تاريخ حاطب كله بسبب خطأ واحد، رغم فداحة الخطأ. لقد عامله بالرفق، وهو يدرك أن حاطبا فهم الدرس ولن يعود لصنيعه أبدا.
وفي شأن هذه الحادثة نزل قرآن كريم يبين للمسلمين أن موالاة أعداء الإيمان والحرية سلوك لا يجوز، ويذكرهم بموقف إبراهيم ومن معه من المؤمنين الذين تبرؤوا من قومهم الكافرين بالله والذين رموا إبراهيم في النار كراهية للحق والعقيدة الصحيحة. ثم بين القرآن الكريم أن عدم موالاة الكفار المحاربين للحرية والإسلام لا يعني معاداة كل من هو غير مسلم. على العكس تماما، أوجب القرآن الكريم على المسلمين معاملة غير المسلمين الذين لا يحاربون المسلمين ولا يعتدون عليهم ولا يخرجونهم من ديارهم بأفضل وأحسن أنواع المعاملة، بالبر والقسط والعدل، وهذا هو نهج المسلمين مع الشعوب والدول غير المسلمة على مر العصور، فهم ينشدون علاقات البر والقسط والتعاون مع الجميع، يحفظون عهودهم، ويخدمون السلام العالمي بقيمهم النبيلة الكريمة، ولا يريدون أيضا ولا يقبلون من أي دولة أو من أي شعب آخر أن يعتدي عليهم ويحتل أرضهم ويخرجهم من ديارهم. ولاشك أن هذا هو النهج السوي الموضوعي الذي يقبل به كل إنسان منصف وعادل على وجه الأرض.
جاء في القرآن الكريم تعقيبا على قصة حاطب بن أبي بلتعة:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ. إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ. لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاوا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ“. (الممتحنة: 1-9)
هذا هو منهج التعامل مع غير المسلمين في القرآن الكريم. والتوجيه واضح لكل مسلم ألا يكون حليفا ووليا بأي صورة من الصور لمن اختار نهج الحرب والعدواة على المسلمين، وسعى لمصادرة حريتهم في عبادة الله وإخراجهم من ديارهم ومصادرة أموالهم وأملاكهم. أما من نهج نهج السلم واحترم حرية الإعتقاد والعبادة للمسلمين ولم يحاربهم فواجب المسلمين أن يختصوه بأفضل أنواع المعاملة، عدلا وبرا وقسطا.
وهذا التوجيه موافق للمنطق تماما. هل يعقل لمواطني أي دولة في العالم، بقطع النظر عن دينها وموقعها، أن يوالوا ويناصروا أهل دولة أخرى تتربص بهم شرا وتخطط للعدوان عليهم؟
وفي ثنايا هذه التوجيهات القرآنية الواضحة فسحة أمل للذين كانوا يتجهزون مع النبي صلى الله عليه وسلم لتحرير مكة، وللدعاة إلى الإيمان بالله في كل جيل: إن الذين يحاربونكم في عقيدتكم ويعتدون عليكم ويخرجونكم من دياركم وأموالكم يمكن أن تنفتح قلوبهم في أية لحظة لأنوار الإيمان فيصبحوا لكم إخوانا وتقوم المودة بينكم وبينهم: “عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ“. وهذا ما ستشهد له قصة تحرير مكة بالأدلة الملموسة.
إلى مكة
في العاشر من رمضان من العام الثامن للهجرة تحرك جيش المسلمين بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم ومقصده مكة المكرمة. استخلف النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة كلثوم بن حصين الغفاري، وخرج معه في معركة تحرير مكة عشرة آلاف مقاتل. أين هذا الرقم الضخم من العدد القليل الذي واجه المشركين يوم بدر في رمضان من العام الثاني للهجرة؟ إن ست سنوات من الدعوة والصبر والعطاء من أجل التوحيد والحرية ومكارم الأخلاق غيرت موازين القوى تغييرا جذريا في الجزيرة العربية، وستتكرر هذه الظاهرة على المستوى الدولي في السنوات القليلة التي أعقبت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
في منطقة الحجفة، في الطريق إلى مكة، اعترض سبيل المسلمين آخر المهاجرين بإسلامهم إلى المدينة المنورة، العباس بن عبد المطلب عم النبي، ومعه أهله وعياله، وكان بقي من قبل في مكة يسقى زوار البيت الحرام، على تواصل مع النبي صلى الله عليه وسلم ورضا منه. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل رحله إلى المدينة ويبقى هو معه مشاركا في حملة التحرير.
وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أيضا اثنان من أقاربه، ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وابن عمته وصهره عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فاستشفعا بأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، فطلبت لهما القبول والأمان. لقد استشفعا لأنهما يعرفان أنهما ألحقا بالنبي صلى الله عليه وسلم كثيرا من الأذى، ولذلك قال الرسول لأم سلمة: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال. وهنا قال على رضي الله عنه لأبي سفيان: ائت رسول الله من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف، “قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين”، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا. ففعل ذلك أبو سفيان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين”. (7)
والحقيقة أن هذه المودة القوية الصادقة المضيئة، وهذه الرابطة الوثيقة بين محمد بن عبد الله ومن سبقه من الأنبياء والمرسلين، عليهم جميعا أفضل الصلاة وأزكى التسليم، لتأسر النفس وتملؤها حبا لله سبحانه وتعالى ويقينا به وفخرا بهذا النسب الكريم الذي لا يدانيه أي نسب آخر على وجه الأرض. المسلم يحب محمدا فيجد في نفسه مباشرة حب نوح وإبراهيم وموسى ويعقوب ويوسف وسليمان وداوود وزكريا ويحيى وعيسى وأمه مريم وكل من سبق نبي الإسلام من الأنبياء والرسل عليهم السلام. كلهم رسل الله، ودعوتهم جميعا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى.
وهذا نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام يتقرب إليه الذين آذوه من قبل بقول قيل لأخيه يوسف فيجيب بجواب أخيه يوسف، بجواب الرحمة والمغفرة والمحبة. أما أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية فقد نالا ما طلباه، وأنشد أبو سفيان معتذرا لنبي الهدى صلى الله عليه وسلم:
لعمرك إني حين أحمل راية لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني حين أهدى وأهتدي
هداني هاد غير نفسي ودلني على الله من طردته كل مطرد
وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب صدره وقال له: أنت طردتني كل مطرد. وقد حسن اسلام أبي سفيان بن الحارث وأحبه النبي صلى الله عليه وسلم وشهد له بالجنة. (8)
واصل جيش النبي صلى الله عليه وسلم تحركه باتجاه مكة، ووصل قريبا منها في منطقة مري الظهران. وهناك فكر العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، عم النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يمكن أن يترتب على دخول الجيش الإسلامي الى مكة قبل أن يستأمنه أهلها، وما يمكن أن يصيب قريش، أشهر قبائل العرب، من ضعف وهوان عندما تكون نهاية معاركها ضد الإسلام هزيمة ساحقة يتحدث بها التاريخ أبد الدهر.
ولعل العباس أيضا فكر فيما يمكن أن يجنيه الإسلام من خير إذا انتهى النزاع والصراع بين النبي وقادة قريش نهاية سلمية بعيدا عن العنف والقتل والدماء والثارات التي قد تطيل مثل هذه النزاعات الى أعوام طويلة، بل الى أجيال متعاقبة.
لم يعد أمر المواجهة العسكرية واردا بالمقاييس الموضوعية، فجيش النبي صلى الله عليه وسلم أكثر عددا وعدة وحماسا وإيمانا بقضيته من أي جيش يمكن أن تحشده قريش في تلك اللحظات الحاسمة. لذلك رأى العباس أن الوقت قد حان للبحث عن وسيلة أو رسول يبلغ الخبر الى أهل مكة، لعلهم يأتون الى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبون منه الأمان.
إسلام أبي سفيان
ركب العباس بغلة ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم واتجه بها ليلا نحو الشعاب المجاورة لعله يلقى حطابا أو صاحب لبن أو مسافرا الى مكة. فبينما هو في مسيره هذا إذ سمع سجالا بين شخصين له بهما معرفة وثيقة، أحدهما أبو سفيان بن حرب أشهر زعماء قريش والثاني بديل بن ورقة. سمع العباس أبا سفيان يقول لصاحبه: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا، في إشارة الى نيران المعسكر الإسلامي التي أوقدها الجنود هناك في ظلمة الليل يطبخون عليها ويتدفؤون ويستضيئون بها. ظن بديل أن النيران صادرة عن خزاعة وأن أهلها جهزوا أنفسهم للحرب والانتقام، فرد أبو سفيان قائلا: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
عرب العباس أبا سفيان من صوته فناداه: يا أبا حنظلة، ورد أبو سفيان: أبو الفضل؟ قال نعم. وسأل أبو سفيان: ما لك، فداك أبي وامي؟ فأخبره العباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قريب من مكة على جيش كبير من المسلمين. قال أبو سفيان في نبرة تسليم بعد طول عناد: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قال العباس: والله لإن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك.
قبل أبو سفيان العرض بعد أن أيقن أنه لا يملك بديلا آخر، وركب مع العباس. وفي الطريق الى خيمة النبي مر العباس وأبو سفيان بكثير من النيران الموقدة يتسامر حولها المسلمون في جماعات صغيرة، وكانوا كلما تساءلوا عن الراكب قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته، إلا تجمع واحد كان فيه عمر بن الخطاب.
عرف عمر أبا سفيان فقال: أبو سفيان عدو الله! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم أسرع باتجاه النبي صلى الله عليه وسلم يود أن يصل اليه قبل وصول العباس طالبا الأمان لصاحبه.
سبقت البغلة عمر بن الخطاب بمسافة قليلة، واجتمع العباس وعمر عند النبي صلى الله عليه وسلم. قال عمر: يا رسول الله، هذا أبو سفيان أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه. وقال العباس: يا رسول الله إني قد اجرته. وألح كل من الرجلين في طرح رأيه والدفاع عنه، حتى ظن العباس أن في الأمر حمية قبلية وعاتب ابن الخطاب: مهلا يا عمر، فوالله لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنهم من رجال بني عبد مناف.
عندئذ تلطف عمر، وأجاب بمقالة بينت حبه لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبجيله لهم. قال: مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب الي من اسلام ابن الخطاب لو أسلم.
وعلى كل حال، فإن أكثر العقلاء لن يراودهم شك في طبيعة رد النبي صلى الله عليه وسلم على صاحبيه. إن الرد يصدر عن خاتم السلسلة الذهبية من أشرف خلق الله على مدى الزمان، من يوم أن نزل آدم وحواء الى وجه البسيطة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب به يا عباس الى رحلك فإذا أصبحت فأتني به. ولما كان الصباح عاد العباس الى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو سفيان.
قال النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبا أشهر قادة الشرك والطغيان في قريش: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟
قال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك. والله قد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد.
قال النبي: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟
قال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك. أما هذه فالله إن في النفس منها حتى الآن شيئا.
وهنا تدخل العباس يحث أبا سفيان على وضع حد لتردده في الإيمان بالله ورسوله، فنطق أبو سفيان بالشهادتين، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ثم قال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا. قال: نعم. من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. (9)
أمن وأمن ثم أمن. سلام وسلام ثم سلام. هذه هي رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة، وتلك كانت رسالته للناس أجمعين. وظهرت في سلوك النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي سفيان أيضا لمسة تكريم وتقدير لخصم عنيد، عندما جعل بيته أمانا للخائفين. كثير من القادة السياسيين والعسكريين في التاريخ يميلون إلى إذلال خصومهم إذا قدروا عليهم والتشفي فيهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قائدا مثل سائر القادة، ولا سياسيا مثل سائر الساسة. كان نبيا مرسلا وزعيما فذا نادرا وإنسانا متواضعا على خلق عظيم.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس أن يقف بأبي سفيان في موضع يرى منه تدفق كتائب الجيش المسلم ليرى حجم القوة التي تنصر الحق والإيمان والحرية. وفي مضيق الوادي عند أنف الجبل بدت القبائل المكونة للجيش تمر واحدة بعد أخرى. يسأل أبو سفيان كلما مرت قبيبة: من هذه؟ فيقول له العباس: سليم. فيقول مالي ولسليم. وتمر مزينة، فيقول: مالي ومال مزينة. ويبقى هكذا شأنه حتى يمر النبي صلى الله عليه وسلم في كتيبته وقد غلبت عليها الخضرة من لون العتاد الذي يحمله المشاركون فيها، وهم المهاجرون والأنصار. ويسأل أبو سفيان عن الكتيبة فيأتيه الجواب من العباس، ويتأمل أشهر قادة قريش فيما يرى أمامه من قوة وحماس وإيمان، ثم ينطق بما في نفسه: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة. والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما. لكن العباس يعرف أن الأمر ليس ملكا ولا قوة مادية مجردة، فيرد قائلا: يا أبا سفيان إنها النبوة. وعندئذ يقول أبو سفيان وهو الذي دخل في الإسلام قبل ساعات قليلة فقط: فنعم إذن. (10)
جيش الأمن والسلام
ثم سبق أبو سفيان جيش المسلمين ووصل قبله إلى مكة، واستدعي أهلها على عجل وهتف فيهم بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. بهت الناس لكن الخبر لم يكن مفاجأة كاملة لهم. لقد عرفوا من قبل أنهم غدروا بحلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهد الصلح، وأن أبا سفيان لم ينجح في مسعاه لتجديد المعاهدة حين زار المدينة المنورة قبل أيام.
لكن العناد ما زال يملأ رؤوس بعضهم، وخاصة هند بنت عتبة عدوة سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب وزوجة أبي سفيان. إن العناد ليخرجها عن طورها حتى أنها تتجرأ على معارضة زوجها أمام الملأ من قريش، بل إنها لتفعل أكثر من ذلك. لقد أخذت بشارب زوجها وشتمته وحرضت الحاضرين على قتله. لكن أبا سفيان لم يفقد صوابه من سوء صنيعها، وتوجه بالخطاب للحاضرين: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
أما وقد استقرت الحقيقة في نفوس الناس فإنهم بدأوا يفكرون في أبواب الأمان الأخرى، فقالوا لأبي سفيان وقد أنساهم الخوف تذكر مقامه بينهم: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ فأجابهم: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. واطمأن الناس فتفرقوا، بعضهم إلى بيوتهم وبعضهم الآخر إلى المسجد، ولم يشذ عن ذلك إلا قلة من السفهاء والصعاليك والمقاتلين الموتورين، مثل عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وهم أبناء بعض عتاة المشركين والطغاة في قريش. تجمع هؤلاء في مكان يسمى الخندمة واستعدوا لقتال المسلمين.
في تلك اللحظات كان جيش الأمن والسلام والحرية قد وصل إلى مكان يسمى ذي طوى على أبواب مكة المكرمة. ونظر عبد الله بن أبي بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه يضع رأسه تواضعا لله وقد رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى كاد شعر لحيته أن يمس واسطة راحلته.
لحظة النصر عند النبي صلى الله عليه وسلم هي لحظة التواضع. لحظة التحرير الكبير هي لحظة الشكر لمن حفظه ونجاه من بطش قوى الشر والإستبداد لأكثر من عشرين عاما مضت بعد نزول الوحي عليه، لله الذي نصره ونصر من قبله إبراهيم وإسماعيل وموسى ويوسف وعيسى واسماعيل وسائر من سبقه من الأنبياء والمرسلين. لحظة القوة هي لحظة الإمتنان لمن بيده ملكوت السماوات والأرض والإعتراف بفضله. لحظة العزة هي لحظة ضبط النفس عن الغرور الذي طالما لعب برؤوس الزعماء السياسيين وقادة الجيوش. لحظة فتح مكة كانت موعدا جديدا لتأكيد نبوة الفاتح الكريم النبيل.
وزع النبي جيشه كتائب مختلفة تدخل قلب مكة من أكثر من اتجاه، فأمر الزبير بن العوام أن يدخل على رأس كتيبة من كدي من ناحية عرفة، وسعد بن عبادة أن يدخل من كداء أعلى مكة حيث وقف إبراهيم عليه السلام ودعا لذريته بالحرم، وأمر خالدا بن الوليد بالدخول على رأس كتيبة من الليط أسفل مكة، كما أمر أبا عبيدة عامر بن الجراح بالدخول من بطن الوادي ممهدا للنبي صلى الله عليه وسلم. ودخل خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم من أذاخر، ونزل بأعلى مكة، ونصبت خيمته هناك.
دخلت كل هذه الكتائب مكة في سلام، إلا كتيبة خالد بن الوليد تصدى لها الأوباش والصعاليك الذين خرجوا مع عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو، فلم يصمدوا كثيرا وانهزموا وفروا، بعد أن قتلوا اثنين من المسلمين ابتعدا عن الجيش، وأصيب من المعتدين اثنا عشر رجلا.
اكتمل وصول كتائب الفاتحين إلى وسط مكة المكرمة، وبذلك تحررت مكة، وتحقق النصر، وشاع الأمن بين سكان أقدس المدائن على وجه الأرض. واتجه النبي صلى الله عليه وسلم صوب الكعبة المشرفة، فطاف بها سبعا على راحلته، وكان بيده قوس فجعل يطعن به حوالي ثلاثمائة وستين صنما كانت منصوبة في رحاب المسجد، وهو يقول: “جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا”، (11) ويقول: “جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد”. (12)
ثم طلب مفاتيح الكعبة من عثمان بن طلحة ودخلها، ومعه أسامة بن زيد بن حارثة وبلال بن رواح، والناس في ساحة الحرم ينظرون وينتظرون.
داخل الكعبة وجد النبي صلى الله عليه وسلم صورا للملائكة ولإبراهيم أبي الأنبياء في وضعية من يستقسم بالأزلام، وهي السهام التي يستقسم بها الناس في ذلك العصر، وحمامة مصنوعة من عيدان، فأمر بكل تلك الصور فطمست. وصلى النبي صلى الله عليه وسلم داخل الكعبة، ووحد الله وكبره، ثم وقف ببابها، وأهل مكة أمامه صفوف ينتظرون أن يسمعوا منه أهم قراراته بعد النصر الكبير والفتح العظيم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كل مأثرة (أي ما يتحدث به من المكارم) أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش: إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم وآدم من تراب. ثم تلا الآية 13 من سورة الحجرات: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير”. (13)
عالج الخطاب النبوي في هذه التوجيهات الموجزة بعض المسائل المستعجلة في المجتمع القرشي، كما أنه خاطب الناس جميعا في نفس الوقت، في كل زمان ومكان، إلى يوم القيامة، خاصة عندما نهى عن نخوة الجاهلية والإفتخار بالأنساب وتعظيمها، وذكر البشرية بأنها كلها لآدم وآدم من تراب، وبأن الله خلقها شعوبا وقبائل للتعارف والتعاون والتفاضل بالتقوى والعمل الصالح.
العفو النبيل عند المقدرة
أنصتت الصفوف القرشية لخطاب خاتم النبيين. هذا هو محمد الصادق الأمين الذي نشأ بينهم وترعرع في صفوفهم، وجاءه الوحي فبلغهم رسالة ربه، ونصح لهم، لكنهم قابلوه بالتكذيب والقمع والعسف، ولم يكفوا عنه شرهم وبغيهم حتى بعد هجرته إلى المدينة، فسيروا إليه الجيوش العظيمة يريدون استئصاله ومن معه، واسقاط الدولة الإسلامية الجديدة.
أنصت أهل قريش للنبي صلى الله عليه وسلم، وجميعهم يسأل نفسه: ماذا يفعل الفاتح المنتصر بخصومه اليوم؟ وهل يتفرغ للإنتقام من قومه الذين كانوا ألد الأعداء وأشدهم عليه؟
السؤال يملأ صدورهم يكادون ينطقون به. واللحظات طويلة جدا في انتظار الجواب. والنبي صلى الله عليه وسلم يعرف ذلك في وجوههم وفي نفوسهم، لذلك يسألهم: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ ويأتي الجواب سريعا ينطق بتطلعات قريش. قالوا: خيرا. أخ كريم وابن أخ كريم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته “لا تثريب عليكم اليوم”. اذهبوا فأنتم الطلقاء. (14)
أنتم آمنون أحرار أيها الناس. جملة من 14 كلمة تقرر هذا المعنى وتخلو من أية إشارة لوم أو عتاب أو محاسبة. ولو أنه لامهم لكان من حقه أن يلوم. ولو أنه عاتبهم لكان من حقه أن يعاتب. بل لو أنه عاقبهم لكان من حقه أن يعاقب. لكن المتحدث في هذا اليوم الإستثنائي من تاريخ مكة ومن تاريخ الإسلام والإنسانية هو خاتم الأنبياء والمرسلين، المثل الأعلى للناس أجمعين. فلا لوم ولا عتاب ولا عقاب، وإنما أمن وأمان وحرية وسلام. وتلك هي بكل وضوح وقوة وبساطة حقيقة رسالة الإسلام.
جلس النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فجاء إليه ابن عمه علي بن أبي طالب ومعه مفتاح الكعبة. قال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك. وقيل في رواية أن الذي طلب منه ذلك عمه العباس. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة. فدعي له، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء. (15) كلمات موجزة من نبي البر والوفاء ومكارم الأخلاق، حسم بها الأمر لابن طلحة ورد بها طلبا صدر عن أقرب الناس إليه.
ثم جاء وقت الصلاة فأمر النبي صاحبه ومؤذنه بلالا بأن يؤذن في الناس. الله أكبر الله أكبر. بداية جليلة مهيبة للأذان، يرتفع به صوت بلال الندي في فناء البيت العتيق، وبجوار الكعبة المشرفة. بلال، العبد الأسود الذي حرره الإسلام، والرجل الشجاع الذي ضرب المثل في التمسك بعقيدة الإيمان بالله رغم التعذيب المروع الذي تعرض له، والإنسان الشريف ذو النفس الحرة التي تحدت قوى الشرك والطغيان، ينال اليوم هذا الشرف العظيم بالدعوة للصلاة عند الكعبة المشرفة، والمسلمون، وأهل قريش، وقادة قريش ينظرون ويسمعون.
كان اثنان من هؤلاء القادة جالسين بفناء الكعبة قرب أبي سفيان، هما عتاب بن أسيد والحارث بن هشام. قال عتاب للحارث ولأبي سفيان: لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته. أما أبو سفيان فتحفظ: لا أقول شيئا، ولو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى. فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم: قد علمت الذي قلتم، ثم حدثهم بما دار بينهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله. والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك.
للمستبدين دائما خصال ذميمة أخرى غير الاستبداد. وهؤلاء الطغاة المهزمون من كبراء قريش جمعوا الى ما بهم من طغيان وإعراض عن الحق والإيمان خصلة سيئة أخرى هي العنصرية والتمييز بين الناس على أساس اللون. ومن هنا صدرت تعليقاتهم التي ترى الموت أفضل واهون من رؤية سيدنا بلال رضي الله عنه وهو يؤذن للصلاة عند الكعبة المشرفة.
ولكنهم الآن إذ أسلموا وآمنوا بما نزل على محمد من الحق سيبدأون في التعلم من مدرسة جديدة تعلن لهم وللعالم بأسره أن الناس جميعا سواسية كأسنان المشط، كرامتهم من عند الله وحده، مهما كانت ألوانهم وأعراقهم وبلدانهم ولهجاتهم، لا يحق لأي قوة أخرى على وجه الأرض أن تنزعها عنهم. تلك هي مدرسة الإسلام، عبر عنها خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لقريش وهو على باب الكعبة المشرفة، وتلك هي مدرسة الإسلام التي جعلت بلالا وآخرين كثيرين مثله من السود في الجزيرة العربية ثم في كل أنحاء العالم على مدى التاريخ يرون في الإسلام دستور الحرية والمساواة والكرامة، لذلك آمنوا به، وتحمسوا له، وحملوا رايته، ونشروا تعاليمه، وبينوا للدنيا ما فيه من خير عظيم.
وفي اليوم الثاني لفتح مكة خطب النبي صلى الله عليه وسلم في الناس مرة أخرى مؤكدا حرمة مكة وقداستها ومشددا على منع القتال وسفك الدماء فيها من بعد أن بلغته أخبار حادثة قتل تورط فيها ناس من خزاعة، وكانوا يثأرون لقتيل لهم في عهد ما قبل الإسلام. قال النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام بحرمة الله الى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما، أو يعبد فيها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم. وإنما حلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب. (16)
الأمن، والسلام، والبر، والوفاء. تلك هي شعارات المرحلة الجديدة في مكة وقد تحررت من سلطة الطغاة وأعداء حرية العقيدة، وآن للعقول فيها أن تتحرر من سلطة الخرافة ومن الخضوع لأصنام يصنعها الناس بأيديهم ثم يخضعون لها ويعبدونها.
يا له من سقوط أخلاقي يثير الدهشة والعجب والإستنكار. كيف يرفض الإنسان عبادة الله الواحد الذي دعا إليه أكرم الناس في تاريخ البشر، نوح وإبراهيم وهود وصالح ويونس وموسى ويعقوب وسليمان وداوود وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام جميعا، ويقبل أن يخضع لسلطان صنم يصنعه هو بنفسه من طين أو حجر؟ كيف يقبل الإنسان على نفسه أن يشرك بالله أصناما يصنعها، وأن يستحل لنفسه ما حرمه الله وما تأباه الفطرة، وأن يقبل بالتمييز العنصري على أساس اللون أو النسب، وبامتهان المرأة، شريكته في الحياة وفي الإنسانية؟
قصة صفوان بن أمية
كان صفوان بن أمية زعيما من زعماء قريش وقائدا كبيرا من قادة المشركين. فلما كان تحرير مكة خرج صفوان الى جدة يريد أن يركب منها الى اليمن فارا من سلطة الإسلام. حينئذ جاء الصحابي عمير بن وهب الى النبي صلى الله عليه وسلم يحدثه بأمر صفوان ويطلب له الأمان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: هو آمن. قال عمير: يا رسول الله فأعطني آية يعرف بها أمانك فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل فيها مكة.
وأسرع عمير يقتفي طريق صفوان فوصل اليه قبل أن يبحر الى اليمن، وناداه: يا صفوان، فداك أبي وأمي، الله الله في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به.
تردد الزعيم القرشي الذي استكمل اجراءات الهروب، وما درى ماذا يفعل بعد أن وصله الخبر: هل يثق بما بلغه به عمير أم لا؟ لكن صاحبه الذي جاءه بالأمان يعرف أن من أعطى الأمان أهل للثقة من جميع الناس في عصره ومن الناس في كل عصر بعده.، لذلك هتف لصفوان من جديد بحرص وإلحاح: أي صفوان، فداك أبي وأمي، أفضل الناس (يقصد بهذا الوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وأبر الناس، وأحلم الناس، وخير الناس، أبن عمك، عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك.
قال صفوان: إني أخافه على نفسي.
قال عمير: هو أحلم من ذاك وأكرم.
وما كان عمير كاذبا قط. وقد نجح في إقناع صفوان وعاد به حتى وصل عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صفوان بلهجة تنطق بما في نفسه من شك وكبر وتردد: إن هذا يزعم أنك قد أمنتني.
قال: صدق.
قال: فاجعلني فيه بالخيار شهرين.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت بالخيار فيه أربعة أشهر. (17)
وأسلم صفوان بعد ذلك، كما أسلم عكرمة أبن أبي جهل، وكان قد فر الى اليمن فتحدثت زوجته مع النبي صلى الله عليه وسلم وحصلت منه على الأمان لزوجها، فلما بلغه الخبر عاد وأسلم وأصبح لاحقا من القادة المسلمين البارزين. وأسلم أيضا فضالة ابن عمير الليثي، وهو كان متورطا في خطة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم في مكة أثناء طوافه بالكعبة المشرفة. رتب فضالة أمره لتنفيذ الجريمة، وفي اللحظات التي كان يتربص فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم يريد اغتياله، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أفضالة؟
قال: نعم فضالة يا رسول الله.
قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟
قال: لا شيء. كنت أذكر الله.
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: استغفر الله.
ووضع النبي يده على صدر فضالة فوجد في نفسه السكينة. وروى فضالة بعد ذلك عن تلك اللحظات قائلا: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب الي منه. (18)
وأسلمت أم حكيم بنت الحارث ابن هشام، وفاختة بنت الوليد زوجة صفوان أبن امية، وأم حكيم زوجة عكرمة ابن أبي جهل وهي التي حصلت له على الأمان من عند النبي صلى الله عليه وسلم، كما أسلمت أم هانئ بنت أبي طالب، وهي استأمنت مرة لرجلين من أقارب زوجها من قبيلة بني مخزوم وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقبل جوارها وأعطى الأمان لمن أمنت.
وأسلم أكثر أهل مكة ودخلوا في دين الله أفواجا، وجاؤوا عند جبل الصفا يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما استطاعوا، وجاءت النساء أيضا فبايعن النبي على ترك الشرك والمعاصي.
وكان من بين من بايع من النساء إمرأة متنكرة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم عرفها وسألها: وإنك لهند،
قالت: نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك.
وعفا النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي مثلت بجثة عمه ولاكت كبده.
قلق الأنصار
قضى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بعد تحريرها أكثر من أسبوعين، واغتنم تلك الفرصة ليشرح للناس تعاليم الإسلام بالتفصيل، كما صدرت أوامره بكسر الأوثان التي كانت في مكة وحولها وهتف المنادون بتكليف منه: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره. وعادت مكة المكرمة منارة للتوحيد والإيمان ومكارم الأخلاق.
كان فتح مكة نصرا عظيما وفتحا مبينا يعبر القرون ليربط بين جهد أبي الأنبياء ابراهيم عليه السلام حين بنى البيت العتيق وطهره للعاكفين والركع السجود، وبين كفاح خاتم النبيين لدحر الشرك وتحرير العقول من الخضوع للخرافات والأوهام وتكريم الإنسان بهدي الإسلام.
هنا بني أول بيت لعبادة الله وحده، بشهادة القرآن الكريم:
“إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ”. (آل عمران: 96)
ولعل كثيرا من المؤمنين تذكروا في تلك الأيام أدعية وردت في القرآن الكريم على لسان ابراهيم واسماعيل عليهما السلام وهما يبنيان بيت الله في مكة المكرمة:
“وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ”. (البقرة 127-129)
ومن دعاء ابراهيم عليه السلام أيضا:
“رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء الْحَمْدُ لله الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ”. (ابراهيم: 37-41)
كانت أجواء الفرح بالنصر العظيم والفتح الكبير تغمر قلوب جميع المسلمين. ولكن الأنصار الذين احتضنوا النبي صلى الله عليه وسلم وبقية المهاجرين المسلمين، وآووهم ونصروهم في أوقات الشدة، وجاؤوا في حملة التحرير مع النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا مع فرحتهم الغامرة بما تحقق من نصر كبير لدعوة الإيمان والتوحيد ولرسالة الإسلام، يشعرون ببعض القلق والضيق في صدورهم.
من أين يأتيهم القلق يا ترى وقد أكرمهم الله وخصهم بأن كانوا ضمن جيش التحرير الذي دخل مكة تحت قيادة النبي ونشر فيها الأمن والسلام والبر والوفاء والإيمان؟
نعم. ثمة أمر أقلقهم وبدا على وجوههم ولم يستطيعوا كتمانه فتحدثوا به فيما بينهم. قالوا: أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ هذا هو السبب إذن. إن الذي يقلقهم محبة خالصة في قلوبهم لأكرم خلق الله. للنبي الكريم والمربي النادر الذي جعل منهم جيلا فريدا من أجيال البشر ومكنهم من نيل فضل عظيم ومكانة نادرة لا ينازعهم فيها أحد: فضل نصرة الإسلام ونبيه ونشر أنوار الحق في الجزيرة العربية تمهيدا لانتشارها في قلوب الناس في شرق المعمورة وغربها.
الحب الشديد هو سبب القلق الذي ألم بالأنصار. إنهم يعرفون مكانة مكة المكرمة عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم. ويعرفون أن زعيمهم وقائدهم الذي غير مجرى تاريخ مدينتهم مولود في شعاب مكة، ولم يغادرها طيلة الثلاث والخمسين سنة الأولى من عمره إلا لزيارات قصيرة ومحدودة هنا أو هناك. وهم يعرفون أنه يحب مكة، وأنه ما غادرها إلا مكرها بسبب ما لقيه من أذى الطغاة فيها وأعداء الإيمان وحرية العقيدة. لذلك خشي الأنصار أنهم قد يعودون إلى مدينتهم هذه المرة من دون القائد والزعيم والنبي المرسل الذي أحبوه أكثر من آبائهم وأمهاتهم وذرياتهم وأكثر من نفوسهم التي بين أجنابهم.
كان النبي صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا يحدث الناس عن هدي القرآن الكريم ويشرح لهم تعاليم الإسلام عندما كان الأنصار يتحدثون بشكواهم فيما بينهم، فلما فرغ من موعظته جاءهم وسألهم عما تحدثوا به فاستحوا وأنكروا. لكن النبي صلى الله عليه وسلم ألح عليهم، فحدثوه بما شغلهم وفاتحوه بما في صدورهم من بواعث القلق. وجاء الرد سريعا من سيد البر والوفاء. قال لهم: معاذ الله، المحيا محياكم والممات مماتكم. (19)
قال المؤرخون عن نبي الإسلام أنه أوتي جوامع الكلم. وجوابه للأنصار دليل من أدلة كثيرة لا يحصيها أحد على صدق هذا الوصف. ففي ست كلمات فقط، أوضح النبي صلى الله عليه وسلم عمق ارتباطه بالأنصار وبمدينته المنورة. إنه ملتزم بأن يحيى معهم ويموت بينهم. نعم، إنه محب لمكة المكرمة، ولكن المدينة مدينته، وعاصمة الدولة التي أقامها على مبادئ الإيمان والحق والحرية، وهو لا ينوي هجرانها ولا الإبتعاد عن أهلها الكرام.
لقد كان سر القوة الأكبر لمحمد بن عبد الله أنه كان رسول صدق من عند الله. وكان من أهم العناصر التي ساهمت في نجاحه ونجاح دعوته من بعد ذلك أنه كان عنوانا لمكارم الأخلاق، لا يدانيه في ذلك أحد. لذلك أحبه أهل المدينة، وأحبه أصحابه من كل قبيلة، وأحبه ملايين الناس بعد ذلك جيلا من بعد جيل، وحوالي مليار ونصف مليار إنسان في هذا الزمان، يصلون عليه في كل يوم، ولا تزور أغلبيتهم الساحقة مكة المكرمة إلا وتزور مدينته المنورة الحبيبة إلى نفس كل مسلم.
انتصار الشهداء
اطمأن الأنصار إلى أن حبيبهم سيعود معهم إلى المدينة المنورة بعد اكتمال النصر العظيم والفتح الكبير. ها هي مكة تعود لوظيفتها الأصلية، التي ترمي بجذورها عميقا في التاريخ البعيد، لتكون دارا خالصة للتوحيد وعبادة الله الواحد الأحد الذي لا شريك له ولا ند.
إن الشهداء الذين قدموا أنفسهم فداء للتوحيد والعدل والحرية وكرامة الإنسان، في معارك الإسلام الأولى، انتصروا مرة أخرى. كانت الشهادة من أجل الدين نصرهم الأول، وفتح مكة نصرهم الثاني، لأن التاريخ من بعد هذا الفتح لن يكون أبدا كما كان قبله.
لقد توطدت أركان الدولة الإسلامية الأولى في التاريخ، وغدت حقيقة أساسية وموثرة في حياة مواطنيها وفي مسيرة العالم بأسره. وما كان ذلك ليتم لولا صبر النبي صلى الله عليه وسلم وتجرده وإخلاصه في أداء رسالته، ولولا الجهاد النبيل لأصحابه الذين صبروا معه كما صبر أصحاب عيسى مع عيسى عليه السلام، وكما صبر أصحاب موسى مع موسى عليه السلام.
كان فتح مكة انتصارا عظيما للمؤمنين بالله وكسبا تاريخيا كبيرا للحق وأهله في كل زمان ومكان، وكان أيضا حلقة عظيمة من حلقات الكفاح النبيل الذي خاضه الأنبياء الكرام على مدار التاريخ الإنساني، وتوجه خاتم النبيين، محمد عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعه بالحق إلى يوم الدين.
(1) ـ السيرة النبوية لابن هشام. الجزء الرابع. مصدر سابق. ص 23
(2) ـ المصدر السابق. ص 27
(3) ـ المصدر السابق. ص 27
(4) ـ المصدر السابق. ص 27-28
(5) ـ المصدر السابق. ص 29
(6) ـ المصدر السابق. ص 30
(7) ـ صفي الرحمن المباركفوري: الرحيق المختوم. مصدر سابق. ص 296-297
(8) ـ المصدر السابق. وردت الإشارة في هامش الصفحة 297
(9) ـ سيرة ابن هشام. الجزء الرابع. ص 33
(10) ـ المصدر السابق. ص 34
(11) ـ القرآن الكريم. سورة الإسراء: 81
(12) ـ القرآن الكريم. سورة سبأ: 49
(13) ـ سيرة ابن هشام. الجزء الرابع. ص 40-41
(14) ـ المصدر السابق. ص 41. و”الرحيق المختوم”. ص 301
(15) ـ سيرة ابن هشام. الجزء الرابع. ص 41
(16) ـ الرحيق المختوم. ص 303
(17) ـ سيرة ابن هشام. الجزء الرابع. ص 44-45
(18) ـ المصدر السابق. ص 44
(19) ـ المصدر السابق. ص 43
0 comments on “الفصل الثالث عشر من كتاب الدكتور محمد الهاشمي الحامدي: السيرة النبوية للقرية العالمية ـ طبع أول مرة عام 1996”