الفصل الأول من كتاب الدكتور محمد الهاشمي الحامدي: السيرة النبوية للقرية العالمية ـ طبع أول مرة عام 1996

عنوان هذا الفصل: حلم عبد المطلب وأمنيته

 

تبدأ فصول هذه القصة النادرة التي صححت مسار التاريخ البشري وغيرت وجه الدنيا بأسرها بميلاد آخر الأنبياء والرسل، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، في النصف الثاني من القرن السادس بعد ميلاد السيد المسيح عليه السلام. إنها القصة التي غيرت وجه الدنيا كلها لما هو خير وأحسن وأجمل، كما سنرى بالأدلة الحاسمة التي لا شك فيها ولا غموض. ولد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب في عائلة عريقة كريمة من أبرز العائلات العربية في مكة، عام 570 للميلاد. تنتسب عائلته الى فرع بني هاشم، ضمن قبيلة قريش، أبرز القبائل العربية وأكثرها شهرة.

 

ومنذ البداية، ظهرت علامات تشابه ووشائج قربى بين المولود الجديد وبين عدد من أشهر الأنبياء والرسل. لقد تربى موسى عليه السلام وترعرع في قصر فرعون، وولد عيسى عليه السلام لمريم العذراء بأمر الله من غير أب. أما بطل هذه السيرة، خاتم النبيين،  فإنه ولد يتيما أيضا، حيث مات أبوه عبد الله في المدينة المنورة بعد شهور قليلة من زواجه بآمنة بنت وهب، أم النبي، وهي أيضا سيدة كريمة من فرع كريم في قبائل قريش، فرع بني زهرة.

 

عين زمزم والنذر الخطير

 

لنتوقف قليلا مع قصة الوالد.

كان عبد الله بن عبد المطلب، والد النبي عليه الصلاة والسلام، قد واجه الموت في مكة المكرمة قبل زواجه من آمنة ثم وفاته في المدينة المنورة.

المواجهة الأولى لها علاقة بموقف عبد المطلب قبل حوالي عقدين من الزمن أو أكثر، أي في العقد الرابع أو الخامس من القرن الميلادي السادس. كان عبد المطلب يحاول مع ابنه الوحيد آنذاك، واسمه الحارث، حفر بئر زمزم من جديد لتوفير مصدر دائم للمياه العذبة بجوار الكعبة المشرفة.

ترمز عين زمزم هي أيضا الى التاريخ الطويل الذي يربط بين الإسلام وبين أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام: ففى مكة المكرمة، وقبل آلاف السنين، كادت السيدة هاجر، زوجة ابراهيم عليه السلام، أن تموت عطشا مع ابنها الرضيع اسماعيل، لولا أن فجر الله لهما عين زمزم، تجري بماء عذب زلال يروي ظمأ الأم الكريمة، زوجة النبي الكريم وأم النبي الكريم، وينقذها وابنها من موت محقق.

والى اليوم، ونحن في الثلث الأول من القرن الهجري الخامس عشر، وبدايات القرن الحادي والعشرين للميلاد، مازال المسلمون يحيون قصة آل إبراهيم هذه عبر ركن أساسي من أركان فريضة الحج وسنة العمرة، هو ركن السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، الجبلان المتقاربان اللذان جرت بينهما السيدة هاجر وهي تبحث عن قطرة ماء، إلى أن جاءها الفرج وتفجر نبع زمزم بين يديها في سفح جبل الصفا، وعلى بعد أمتار قليلة من الكعبة المشرفة.

طمست القرون المتعاقبة على صحراء مكة آثار بئر زمزم، غير أن عبد المطلب الذي يعرف خبرها وقصتها، رأى في منامه موضع هذه البئر بالتحديد، في مكان بين صنمين مشهورين يقدسهما أهل قريش هما إساف ونائلة، فأراد أن ينقب عليها من جديد.

مكة وأهلها وحجاجها في حاجة إلى الماء، وبعد هذه الرؤية تحمس عبد المطلب لفكرة التنقيب عن عين زمزم، ورأي فيها خدمة عظيمة الشأن لزوار مكة الكثيرين، الذين كانوا يحجون للكعبة كل عام، يقدمون القرابين للأصنام الكثيرة التي اتخذوها آلهة تقربهم الى الله زلفى حسب ظنهم. ومن هنا جاءت تسميتهم بالمشركين، لأنهم كانوا في أغلبهم يؤمنون بالله ولكن لا يوحدونه في العبادة، وإنما يشركون في عبادته اللات والعزى وأصناما كثيرة أخرى اعتقدوا فيها أنها واسطة بينهم وبين الله، وأنها تنفع وتضر، وتسمع منهم الدعاء وتجيبه.

للوهلة الأولى لم يكن في مشروع عبد المطلب للتنقيب عن بئر زمزم ما يزعج قادة قريش. غير أن التفاصيل التي رآها في منامه لم تساعده. إنه يريد أن ينقب عن زمزم بين وثني أساف ونائلة، وهذا الأمر أخاف قريشا، لأنها تخشى من غضب الصنمين المقدسين عندها، فاعترض قادتها على خطط عبد المطلب رغم أنه كان زعيما من كبار زعماء القبيلة. ولم يكن مع عبد المطلب آنذاك الا ابنه الوحيد، الحارث، وما كان الحارث قادرا على نصرة والده وحمايته في مجتمع تؤدي فيه العصبية العائلية والقبلية دورا مؤثرا وقويا.

غضب عبد المطلب من اعتراض قومه وتألم، وأدرك حاجته الماسة للأنصار من صلبه وذريته، فنذر لله نذرا أنه إن أعطاه عشرة أولاد قادرين على حمايته ونصرته، لينحرنَّ واحدا منهم أمام الكعبة المشرفة قربانا لله تعالى واعترافا بفضله.

مرت الأيام مسرعة كما هو شأنها منذ أول الدهر. وما هي إلا سنوات قليلة حتى تحقق لعبد المطلب مراده: رزقه الله عشرة أولاد يتمتعون بالصحة والفتوة والقوة. وما أن اكتمل عقدهم بأصغرهم، بالإبن العاشر عبد الله، حتى قرر عبد المطلب أن يوفي بنذره، ويقدم واحدا من أبنائه العشرة قربانا لله تعالى.

والد الرسول

أخبر الوالد أبناءهم بما عزم عليه فلم يعارضوا ولم يتمردوا. تلك كانت أعراف عصرهم وعاداته. والتأم شمل الجميع عند الكعبة المشرفة لإتمام هذا الاختبار القاسي العسير، بحضور جمهور كبير من قريش.

اختار عبد المطلب اعتماد القرعة، على الطريقة السائدة في عصره، لتحديد مَن مِن أبنائه سيكون القربان. وضعت عشرة قداح، وكتب على كل قدح اسم من أسماء الأبناء العشرة، وقام شخص محايد بإجراء القرعة، فكانت النتيجة أن وقعت على أصغر أبناء عبد المطلب وأحبهم الى قلبه: عبد الله.

كل الآباء يعرفون ما لأصغر الأبناء من موقع مميز في القلب ومن المحبة والتدليل، ولم يكن عبد المطلب مختلفا عن بقية الآباء. كان حبه لعبد الله قويا، ولعله كان يتمنى لو وقعت القرعة على غيره، لكن الأمر حسم علنا، وزعيم مثل عبد المطلب لا ينقض نذرا نذره لربه، ولا يمكنه أن يطلب إجراء القرعة من جديد.

جرى كل هذا أمام أعيان مكة وعامتها، فكبر عليهم جميعا أن يموت هذا الشاب اليافع وفاء بالنذر القديم، وبحثوا عن حل مستساغ في تقاليدهم وأعرافهم، وتوصلوا لاقتراح قبل به عبد المطلب. طلبوا من الوالد تأجيل ذبح ابنه حتى يستشيروا امرأة حكيمة كانوا يترددون عليها في خيبر ويستعينون بها لمثل هذه الأمور. وبذلك أصبحت قريش بأسرها طرفا في هذا الموقف العائلي المعقد، كما هو شأن القبيلة العربية في تاريخها الطويل، إذ لطالما قامت بأدوار اجتماعية عظيمة، وهي وما تزال تفعل ذلك في المجتمعات التي بقي فيها للقبيلة دور وشأن.

سمعت المرأة الحكيمة تفاصيل القصة ثم سألت زعماء قريش عن دية الشخص عندهم، فقالوا إنها عشرة من الإبل. والدية عند العرب هي ما يدفعه أهل القاتل لأهل القتيل، إذا رضي أهل القتيل بدية مالية بدلا من القصاص الكامل الذي يعني النفس بالنفس.

نصحت المرأة الحكيمة أهل قريش أن يعودوا الى الكعبة ويجروا القرعة مجددا بين عشرة من الإبل وعبد الله. فإذا وقعت القرعة على عبد الله فإن عليهم مضاعفة الدية، الى أن تقع القرعة على الدية. رضيت قريش بالإقتراح وعادت من عند الحكيمة العرافة من أهل خيبر راضية مسرورة بهذه التسوية، وهي تسوية قبلها عبد المطلب أيضا.

جرت القرعة الأولى بين عبد الله وبين عشرة من الإبل فخرجت على عبد الله. قدمت قريش عشرة أخرى من الإبل، وجرت القرعة بين عبد الله وعشرين من الإبل، فخرجت مرة أخرى على عبد الله. وأضافت قريش عشرة إبل أخرى لكن النتيجة لم تتغير. وبقيت قريش تزيد وتزيد حتى قدمت تسعين من الإبل، لكن القرعة خرجت مرة أخرى على عبد الله.

لم تتغير النتيجة إلا عندما وصلت الدية الى مائة من الإبل. أنذاك فقط خرجت القرعة على الإبل وليس على عبد الله. هللت قريش مبتهجة بالنتيجة، فقد استطاعت أن تنقذ من الموت شابا من أنبل شبانها وأكرمهم. لكن عبد المطلب أصر على أن يتأكد، وأن يجري القرعة مرة ثانية بين الإبل المائة وابنه عبد الله، فخرجت مجددا على الإبل. ثم أصر عبد المطلب على اجراء القرعة مرة ثالثة.

كان يأخذ نذره لله على أعلى درجات الصدق والجدية. وكان يريد أن يطمئن أنه لم ينكث عهده أمام الله، ويثبت لخالقه أنه مستعد لتقديم أي تضحية مطلوبة لتأكيد صدقه. ووسط هذا الحرص الشديد من عبد المطلب على الوفاء بعهده لربه، كانت روح عبد الله في الميزان، عبد الله الذي سيصبح من بعد زوجا لآمنة بنت وهب، وأبا لخاتم النبيين.

أجريت القرعة للمرة الثالثة فخرجت مرة أخرى على الإبل. وتنفس عبد المطلب الصعداء. وغمرت الفرحة أهل قريش الذين وقفوا كلهم وقفة رجل واحد لإنقاذ عبد الله. أحس الجميع أن العناية الإلهية تدخلت مباشرة لحفظ هذا الشاب اليافع النبيل.

وربما طافت بخاطر عبد المطلب قصة أخرى مشابهة جرت في التاريخ البعيد، قصة لم ينسها العرب ولم يهملها التاريخ، وقد جعلها الإسلام من بعدُ العيد الأكبر من بين العيدين الدينيين الوحيدين للمسلمين: عيد الفطر في نهاية رمضان، والعيد الأكبر، أي عيد الإضحى في نهاية موسم الحج.

كانت قصة واقعية شديدة الشبه بما جرى لعبد الله، وكان لها بطلان: الأول هو إبراهيم الخليل، والثاني هو ابنه اسماعيل، عليهما الصلاة والسلام.

 

قصة فداء إسماعيل

 

في تلك الحقبة البعيدة من حقب التاريخ، كان إبراهيم عليه السلام قد مر بامتحان عسير ونجا من مؤامرة كبرى دبرها له خصومه الذين رفضوا ما دعا اليه من توحيد الله ونبذ عبادة الأصنام. أراد إبراهيم أن يظهر لقومه سخافة اعتقادهم في أصنامهم وبطلانه، فاغتنم فرصة غيابهم وانشغالهم بواحد من احتفالاتهم، واتجه الى المكان الذي توجد به الأصنام فحطمها كلها إلا الصنم الأكبر منها.

وعندما انتبه القوم الى ما أصاب آلهتم، وأجروا بعض التحقيقات الأولية التي أشارت بأصابع الإتهام الى نبي الله، جاؤوا الى إبراهيم مستفسرين في نبرة استنكار وتهديد. فكان جوابه لهم جواب تهكم وسخرية بما وصلوا اليه من دركات التخلف في التفكير: إن الصنم الأكبر هو من حطم بقية آلهتكم، فاسألوهم جميعا لتتأكدوا من ذلك ولتعرفوا منهم الحقيقة.

مثل هذا الموقف حري وجدير بأن يرد كثيرين الى نهج الحق وطريق الإيمان. لكن ما أكثر ما عرفنا وقرأنا عن نزعة كثير من البشر الى العناد والمكابرة. وقد اختار قوم إبراهيم هذا النهج وزادوا عليه بأن قرروا تصفية صاحب الرأي المخالف لهم بأبشع وسائل التصفية. هكذا كشفوا عن روح التعصب والتشدد التي سيطرت عليهم، فلم تجد سبيلا لمواجهة الرأي الآخر إلا برمي أصحابه في النار، وقد نفذوا قرارهم لكن الله تعالى أبطل مكرهم، وذكر قصتهم في القرآن الكريم: “قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين. قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم. وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين”. (الأنبياء: 68-70)

نجا إبراهيم عليه السلام بأمر الله وحفظه، وكانت نجاته معجزة من المعجزات التي خصه الله بها. وبعد هذه المرحلة من حياته، تبدأ القصة التي تحمل شبها بما جرى لعبد الله والد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. دعا إبراهيم ربه أن يهب له ذرية صالحة تخفف وحدته وتقبل منه دعوته للتوحيد، فبشره الله بغلام يسر خاطره ويحقق مراده. وصدق وعد الله، ورزق ابراهيم من السيدة هاجر بغلام كريم هو اسماعيل عليه السلام.

نشأ اسماعيل تحت عناية والده ورعايته، تغمره محبة النبي الكريم وعطفه. وما هي إلا سنوات قليلة حتى اشتد عوده وغدا قادرا على السعي والعمل مع أبيه، وظهرت منه أمارات الفتوة والشباب والمستقبل الواعد، الأمارات التي يحلم بها ويرجوها كل والد على وجه الأرض لولده، والتي أصبحت مصدر سرور غامر كبير من إبراهيم.

عندئذ، جاء الوحي من السماء بما لم يتوقع الوالد الحنون العطوف ولا ابنه الشاب المتوثب الممتلئ بالحيوية والحياة. رأى ابراهيم في منامه رؤيا، ورؤيا الأنبياء وحي من الله عز وجل، رأي أن عليه أن يذبح ابنه قربانا لله تعالى. لعل هذا كان أصعب اختبار مر به أبو الأنبياء، ولعله أحس أن الله تعالى أراد أن يمتحن إيمانه وإخلاصه الكامل لربه، من بعد أن أصبح ابنه الفتى قطعة من روحه وقلبه.

ولا شك أن موقف إبراهيم عليه السلام من هذا الإختبار هو واحد من أبرز أسباب علو مقامه في تاريخ الأنبياء والرسالات السماوية والتاريخ الإنساني كله. إنه لم يسأل ولم يعترض ولم يتردد، وإنما مضى قدما يخبر أحب الناس الى نفسه، ابنه اسماعيل، يخبره ويستأذنه في تنفيذ أمر الله، راجيا ألا يواجه بالثورة والإعتراض. وجاء موقف ابنه الكريم النبيل معادلا له في السمو والرفعة والطاعة المطلقة لأمر الله. لقد قبل أمر ربه دون جدال. وكما يقول العرب: هذا الشبل من ذاك الأسد.

وقف الرجلان موقف الذبح الذي لا يحتمل كل الناس مجرد التفكير به. وبينما السكين توشك أن تفصل الرأس عن جسد الفتى المؤمن الصابر اسماعيل، جاءت البشرى من الله أكرم الأكرمين، تعلن أن الله افتدى اسماعيل بكبش عظيم، من بعد أن نجح ابراهيم الخليل وابنه نجاحا باهرا في الإختبار، واتضح جليا أن الله تعالى أحب اليهما من كل شيء آخر، أحب لإبراهيم من نفسه وولده، وأحب لإسماعيل من نفسه وأبيه.

دوّن القرآن الكريم هذا الموقف المهيب في عدة آيات كريمة:

“فلما بلغ معه السعي، قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك، فانظر ماذا ترى. قال: يا ابت افعل ما تؤمر. ستجدني إن شاء الله من الصابرين. فلما أسلما وتله للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم. وتركنا عليه في الآخرين: سلام على إبراهيم. كذلك نجزي المحسنين. إنه من عبادنا المؤمنين”. (سورة الصافات: 102-111)

إنه لموقف عظيم ونادر في تاريخ الإنسانية، حري وجدير بأن يبقى مخلدا في ذاكرة المؤمنين الى يوم القيامة. وقد خلده الإسلام فعلا، وجعله في موقع القلب من شعائر عيد الإضحى المبارك، العيد الأكبر عند المسلمين، حيث تضحي كل عائلة مسلمة بأضحية، من الخرفان في الغالب، تتذكر به قصة فداء اسماعيل، وتعلن تمسكها بدرب الإيمان من خلال معايدة الأهل والجيران والتبرع باللحم والطعام للفقراء والمحتاجين.

 

زواج والد الرسول من آمنة ثم وفاته

 

نعود الآن الى عبد الله بن عبد المطلب ونروي ما كان من أمره بعد أن أنجاه الله من الذبح. بلغ الفتى النبيل عمر الزواج وكان وسيما، في وجهه نور جلب اليه إعجاب الكثير من نساء قريش، حتى بادرن بطلب الزواج منه. لكن شرف الحمل بآخر الأنبياء وخاتم المرسلين كان مكتوبا لآمنة بنت وهب. تزوجها عبد الله في عرس احتفت به قريش كلها، وعاش معها قرابة ستة أشهر، قبل أن يسافر ضمن إحدى القوافل التجارية التي درج على تسييرها أهل مكة باتجاه الشام لبيع بعض منتجاتهم وتوريد مؤونتهم وحاجة أسواقهم، خاصة وهم يستقبلون الحجيج الى مكة سنويا من أنحاء كثيرة من جزيرة العرب.

مرض عبد الله في طريق العودة، فانفصل عن القافلة عند أخواله بني النجار في يثرب يطلب الراحة والعلاج، يثرب التي ستشتهر لاحقا بعد هجرة نبي الإسلام اليها باسم المدينة المنورة. لكن عبد الله كان على موعد مع ربه هناك. فقد مات من مرضه ذاك، ونزل الخبر كالصاعقة على زوجته آمنة، وعلى والده عبد المطلب، وعلى أهل قريش الذين فعلوا المستحيل لإنقاذه من النحر قبل سنوات قليلة وفدوه بمائة من الإبل، وهي فدية ضخمة بمعايير ذاك الزمان ومعايير هذا الزمان أيضا.

لا يرد الموت أحد، وليس من دواء لمن مات له حبيب أو قريب إلا الصبر. ولم تكن آمنة بنت وهب ممن يجهل هذا الأمر، فصبرت. وكان أعظم شيء هوّن عليها مصابها في عبد الله أنها كانت حاملا منه. إن ما في بطنها سيعوضها عن الحبيب الذي مات شابا يافعا قبل أن يتم العام الأول من زواجه. وبالطبع لم تكن آمنة تعلم الغيب، ولم تكن تعلم أن الجنين الذي تحمله هو دعوة إبراهيم، ونبوؤة موسى، وبشارة عيسى، وأنه هو النبي المنتظر الذي يبلغ عن ربه رسالته الخاتمة للناس أجمعين.

 

ميلاد الرسول وقصة عام الفيل

 

انقضت أيام الحمل، وأطل على البشرية في ليلة مقمرة في الثاني عشر من ربيع الأول، عام 570 للميلاد، مولود ذو شأن عظيم اختار له أهله من الأسماء اسم محمد.

يورد المؤرخون السنة الميلادية التي ولد فيها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، وتشير اليها طائفة منهم باسم آخر، هو عام الفيل، استنادا للتسمية التي اعتمدها لها أهل قريش وعرب ذلك الزمان. فما قصة هذه التسمية؟

عام الفيل هو العام الذي خرج فيه أبرهة الحبشي من اليمن على رأس جيش، يقصد مكة المكرمة، وهدفه هدم الكعبة وإجبار أهل مكة وبقية العرب على الحج الى معبد بناه في صنعاء وزينه بأحسن الرخام وأجمل الذهب والجواهر. كان أبرهة في تلك الفترة واليا على اليمن من قبل حاكم الحبشة، ولعله كان يريد من عدوانه على مكة أن يوظف الورقة الدينية ليعلي من مركزه وحظوظه عند ملكه في الحبشة، وما أكثر ما رفعت الرايات الدينية في حروب ليس للدين بها صلة من قريب أو من بعيد. ويجوز أيضا أن يكون الدافع اقتصاديا، وأن أبرهة كان يطمح الى مضاعفة العائدات المالية لولايته من الحجاج العرب الذين خطط لإجبارهم على القدوم الى صنعاء بدلا من مكة.

اتجه أبرهة بجيش كبير الى مكة، ووصل الى ضواحيها، وأدخل في الحرب عنصرا جديدا لم يعرفه العرب من قبل، هو الفيل الذي استحضره ليهجم على الخصوم ويروعهم ويدخل الفزع في قلوبهم. علم القرشيون بالحملة، ومع أن التاريخ يشهد بشجاعتهم النادرة، فإنهم أدركوا أنه ليس بوسعهم الصمود عسكريا أمام الجيش الغازي الذي يفوقهم كثيرا، عددا وعدة.

حاول زعيمهم عبد المطلب أن يتوصل الى تسوية سياسية مع أبرهة، لكنه لم ينجح. وبدا أبرهة مصمما على تنفيذ خطته وهدم الكعبة. وعند يأسه من التوصل لحل سياسي، طلب عبد المطلب من أبرهة أن يرد اليه زهاء مائتين من إبله صادرها الجيش الغازي عند أطراف مكة. تعجب أبرهة كثيرا من هذا الموقف، وقال لعبد المطلب أنه يستهجن منه أن ينشغل بإبله بينما مدينته كلها توشك أن تتعرض للهدم والتدمير، فأجابه عبد المطلب بأنه هو رب الإبل، أي صاحبها، ولذا فهو المكلف بالدفاع عنها. أما فيما يتعلق بالكعبة وبيت الله، فإن للبيت ربا يحميه.

وصدق عبد المطلب. فقد دافع الله سبحانه وتعالى عن بيته. ذلك أنه عندما قرر أبرهة أن يتقدم لتنفيذ خطته الهجومية أبى الفيل أن يطاوعه. كان يرفض التقدم باتجاه مكة، ولكنه يقبل السير والتقدم في أي اتجاه آخر.

وبعد امتناع الفيل عن تنفيذ الأوامر، ظهر معطى آخر لم يتوقعه أبرهة. لقد تغيرت الظروف الجوية فجأة، وادلهمت السماء على الجيش الغازي المسكون بالطمع والجشع وإرادة التدمير، وأقبلت مع الغيوم طيور رمت أبرهة وجنوده بحجارة أهلكتهم وشتتت شملهم. قال بعض المؤرخين أن الطيور نشرت بين الغزاة وباء قضى عليهم، لعله وباء الحصبة والجدري، والصحيح دون شك قول القرآن الكريم. واتفقت الروايات أن الفوضى عمت صفوف الجيش الغازي، فتفرقوا كل واحد منهم يطلب النجاة والهرب، لكنهم هلكوا وماتوا مشتتين في الصحراء، بمن فيهم قائدهم أبرهة الذي أعماه الطمع والجشع والتعصب عن احترام حقوق الآخرين وحرياتهم. وفي القرآن الكريم عرض موجز مختصر لهذه القصة:

“ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل. ألم يجعل كيدهم في تضليل. وأرسل عليهم طيرا أبابيل. ترميهم بحجارة من سجيل. فجعلهم كعصف مأكول”. (الفيل: 1-5)

كان عام الفيل إذن هو العام الذي ولد فيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. ولد ليكون قرة عين لأمه التي ترملت في عز شبابها، ولجده الذي فجع في أحب أبنائه اليه، عبد الله. وأُعطِيَ الوليد، على عادة قريش في ذلك الزمان، لإحدى المرضعات، لترضعه في بادية مكة. وكانت الحكمة من هذا أن الصبي ينشأ في هواء البادية النقي فيكون أصح وأقدر على تحمل مناخ الجزيرة العربية. وقد حفظ التاريخ الى الأبد اسم تلك المرضعة المحظوظة: حليمة السعدية.

 

أيام الصبا ووفاة أم الرسول وجده

 

قضى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم سنوات صباه الأولى في ديار بني سعد غير بعيد من مكة المكرمة. وفي عامه الخامس عاد الى بيت جده عبد المطلب وأمه آمنة التي لم تغب عن ذاكرتها صورة زوجها الراحل عبد الله. وبعد ذلك بشهور، قررت آمنة أن تصطحب ابنها معها لزيارة قبر أبيه في يثرب وللتعرف على أخواله بني النجار. وتبعد يثرب عن مكة ما يقرب من خمسمائة كيلومتر.

بقيت آمنة وابنها وخادمة لهما في المدينة حوالي شهر، قبل أن يسلكوا طريق العودة الى مكة. وفي بداية الطريق، مرضت آمنة، ولم يمهلها مرضها فماتت ودفنت في قرية تسمى الأبواء.

وهكذا اكتمل يتم النبي محمد صلى الله عليه وسلم: رحل أبوه قبل أن يراه، وها هي أمه تلبي داعي ربها وهو مازال في العام السادس من عمره.

عاد الصبي اليتيم الى جده عبد المطلب في مكة، فلقي منه الكثير من العطف والحنان. وواضح أن الجد كان يبذل كل ما في وسعه لتعويض محمد عن فقد والديه، حتى أنه كان يصطحبه معه الى مجالسه مع أعيان مكة حول الكعبة.

لكن هذا الجد العطوف كان آنذاك رجلا كبيرا في السن قد جاوز المائة. وبعد عامين فقط من وفاة آمنة أم النبي، توفي عبد المطلب أيضا.

هنا يدخل التاريخ من بابه العريض عم من أعمام النبي محمد صلى الله عليه وسلم،  عم سيكون له فضل كبير لا ينكر على النبي وعلى دعوة الإسلام: إنه أبو طالب بن عبد المطلب. قرر أبو طالب كفالة ابن أخيه اليتيم، وبذل له من الرعاية والحنان والعطف والحماية ما عوض النبي كثيرا عن فقد والديه وجده. وفي الحقيقة، لم يعامل أبو طالب محمدا مثل أولاده فقط: لقد قدمه عليهم، ودعمه بقوة حتى آخر لحظة من عمره.

لم يدخل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم مدرسة ولا معهدا ولا مركزا دينيا من أي نوع. كان تعلم الكتابة آنذاك متاحا على نطاق محدود، ومحصورا تقريبا على أولاد النخبة الغنية من زعماء قريش. ومع أن أبا طالب كان اسما بارزا في تاريخ قريش، فإنه لم يشتهر بغناه. وقد أدرك ابن أخيه ذلك، فسرعان ما انخرط فيما يتاح له تجارة وعمل لمساعدة عمه. وعندما بلغ النبي عامه الثالث عشر، سافر مع أبي طالب في قافلة تجارية الى الشام، يساعده ويتعلم منه ومن التجربة نفسها.

بحث الفتى اليتيم عن عمل آخر يساعد به عمه، فقد كان أبي النفس، يكره أن يكون عبئا على عمه. ولم يستنكف من أن يرعى الغنم لقريش مقابل أجر زهيد. وهنا تحضر الى الذاكرة تجربة نبي آخر مع الرعي، هي تجربة موسى عليه السلام بعد أن فر من سلطة فرعون أول مرة ولجأ الى أهل مدين. وما أكثر وأوثق وأقوى ما يربط بين هذين الاسمين الجليلين في تاريخ الإنسانية: موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.

لم يعرف عن الفتى اليتيم ميل للهو العابث والإستهتار. لقد تميز بالجدية منذ صباه، ولم يكن ممن يسرفون في الحديث بمناسبة وبغير مناسبة. كان سمته منذ صباه مطبوعا بالوقار، وبالميل الى العزلة والتأمل فيما حوله، ولم يعرف عنه أبدا أنه انخرط في مجالس اللهو التي كان أنداده يرتادونها في نوادي قريش.

وعندما بلغ العشرين من العمر، حضر الفتى اليتيم مع أعمامه مجلسا له شأن في تاريخ العرب وفي تاريخ حركة حقوق الإنسان العالمية: مجلس حلف الفضول. فقد ذكر المؤرخون أن تاجرا من قبيلة بني زبيد باع سلعة الى أحد القرشيين، العاص بن وائل السهمي، لكنه عجز أن يحصل منه على ثمنها. طلب التاجر الزبيدي من بعض أعيان قريش وبعض الوجوه القبلية البارزة الأخرى أن يساعدوه في الحصول على حقه لكنهم لم يكترثوا به كثيرا. ولما يئس منهم، وقف وسط الناس عند الكعبة المشرفة، حيث يلتقي الأعيان والعامة، وألقى أبياتا من الشعر شكا فيها مما تعرض له من ظلم، وشكا فيها غربته وفقد من ينصره ويعينه على استرداد حقه.

تحركت الغيرة ونزعة الإنسان الكارهة بفطرتها للظلم عند عدد من الحاضرين، واتفقوا على أن يجتمعوا لإعلان معاهدة شرف بينهم، مضمونها الإتفاق على رفض الظلم وعلى نصرة المظلوم وإقامة العدل في مكة. وتم الإجتماع فعلا في بيت عبد الله بن جدعان، أحد وجهاء قريش وشيوخها المحترمين. وحضر ممثلون لأبرز العشائر والقبائل، منهم بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد بن عبد العزي وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة، فتحالفوا وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وتحالفوا على من ظلمه إلى أن ترد مظلمته.

حضر الفتى اليتيم ضمن وفد بني هاشم هذا المجلس التاريخي الذي سمته قريش “حلف الفضول”. وعندما أكرمه الله بالنبوة، تذكر هذا الحلف ومدحه: “لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت”.

بلغ الفتى اليتيم الخامسة والعشرين من العمر وقد اشتهر بين قريش بأنه الشاب العفيف النبيل، والصادق الأمين. وقد جلبت له هذه السمعة الطيبة اهتمام سيدة غنية من سيدات مكة، سيدة عريقة في النسب والشرف وذات اهتمام بالتجارة. قال محمد ابن اسحاق، أشهر رواة السيرة النبوية، فيما نقله عنه عبد الملك بن هشام صاحب أشهر كتب السيرة النبوية على الإطلاق، قال عن هذه السيدة: “كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه. وكانت قريش قوما تجارا. فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت اليه فعرضت عليه أن يخرج في مال لها الى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة”.(1)

قبل الفتى اليتيم بالعرض، وحققت رحلته التجارية الى الشام نجاحا معتبرا. وعندما عاد الى مكة، قدم الحسابات الكاملة لصاحبة رأس المال، فسرها كثيرا ما تحقق من ربح، وأعطته حقه المتفق عليه. وبعد أن انصرف محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لشأنه، أتيح لخديجة أن تتأمل في شخصيته، وأن ترى من واقع احتكاكها به فيما يتعلق برحلة الشام، الكثير من صفات الأمانة والشرف والخلق الرفيع والرجولة التي تتمناها كل امرأة في شريك حياتها.

لا شك أن خديجة التي بلغت الأربعين من عمرها آنذاك قد فكرت طويلا في أمر الزواج بمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ولاشك أنها استشارت من تثق به من صديقاتها، وأنها ما أقدمت على خطوتها التالية إلا بعد أن تأكدت أنها خطوة سديدة موفقة. وقد وصفت كتب السيرة النبوية خديجة بأنها كانت امرأة “حازمة شريفة لبيبة، مع ما أراد الله بها من خير وكرامة.. (كما أنها كانت يومئذ) أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، كل قومها كان حريصا على ذلك لو يقدر منها”. (2)

أخذت خديجة قرارها الحاسم الذي عاد منه خير كثير على الإسلام وعلى نبيه وعلى رصيد المرأة المؤمنة على مدى التاريخ، فأرسلت خادمها أو إحدى صديقاتها الى محمد صلى الله عليه وسلم تعلمه بأنها معجبة بأمانته وصدق حديثه وحسن أخلاقه، فضلا عن نسبه وقرابته منها، وأنها تعرض عليه الزواج.

كانت خديجة رمزا للمرأة العربية صاحبة القرار المستقل، وقد لقي عرضها القبول من النبي، وهو في الخامسة والعشرين من عمره آنذاك ومن أعمامه الذين جاؤوا معه يخطبونها، والذين تحدث باسمهم أبو طالب مبينا فضل العريس: “إن محمدا لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به شرفا ونبلا وفضلا وعقلا”. (3)

مع خديجة الحازمة الشريفة اللبيبة عاش النبي صلى الله عليه وسلم أيام شبابه مستقرة لا يكدر صفوها شيء. لم يتزوج عليها النبي امرأة أخرى حتى ماتت بعد نزول الوحي اليه ببضع سنوات. ورزق منها ولدين من الذكور: القاسم، وبه كان يكنى، وولدا ثانيا هو عبد الله، (ويقال له أيضا: الطاهر والطيب)، وأربع بنات: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة. وقد مات ابراهيم وعبد الله وهما طفلان صغيران، قبل نزول الوحي على النبي، أما بناته فعشن الى ما بعد البعثة. ووورد في بعض الروايات أن عبد الله ولد بعد البعثة، وأنه إنما سمي بالطيب والطاهر لهذا السبب، وقد مات صغيرا هو أيضا.

أما ابن اسحاق وابن هشام فذكرا أن النبي صلى الله عليه وسلم رزق من خديجة ثلاثة من الذكور هم: القاسم والطيب والطاهر. وروى ابن اسحاق أنهم ماتوا جميعا صغارا قبل البعثة.

يورد المؤرخون بعد ذلك موقفا مهما آخر يسلط المزيد من الضوء على شخصية النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي عليه. كان عمره آنذاك في الخامسة والثلاثين، وكان قومه يرغبون في إعادة بناء الكعبة، لإعلاء جدرانها وبناء سقف عليها. ومع أن النية طيبة، فإن الناس ترددوا مهابة من الكعبة، وخافوا أن ينالهم عقاب من هدم بنيانها الأول.

وبعد خوف وتردد، قام واحد من زعمائهم هو الوليد بن المغيرة بضربها الضربة الأولى بمعوله، وهو يخاطب ربه بنيته ونية قومه، وأنها نية الإعمار والتجديد لا الهدم والتخريب. صبر الناس يوما أو يومين ولم ينل الوليد سوء من صنيعه، فتشجعوا على إكمال المهمة، وتعاهدوا أن يعيدوا بناء الكعبة بمال حلال ليس فيه “مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس”.(4)

شاركت قبائل قريش كلها في بناء الكعبة الى أن استقام أكثر بنيانها. ثم وصلوا الى موضع الحجر الأسود من الكعبة، وهو حجر متوارث في تراث العرب من عهد إبراهيم عليه السلام، وله مكانة رفيعة وخاصة عندهم جميعا. تنافس المشاركون في البناء حول من يرفع الحجر الاسود الى مكانه من البناء الجديد. وسرعان ما تحول التنافس الى خصومة وتهديدات متبادلة، وما أسرع ما توترت الأجواء حتى غدت تنذر بحرب طاحنة بين الإخوة أبناء القبيلة الواحدة.

وقبل أن تسل السيوف من أغمادها وتشتعل نار الحرب، نطق أحد الحكماء بحل استثنائي يبتغي منه حقن الدماء. قال أبو أمية المخزومي، وهو أكبر المجتمعين حول البناء الجديد سنا: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه.

فكر الحاضرون فيما سمعوا فوجدوه اقتراحا مفيدا يحل الخلاف ويحقن الدماء، فرضوا به.

ترى، من يكون أول داخل، وهل يستطيع أن يقضي في هذه المسألة المعقدة برأي منطقي مقبول من الجميع؟

حبس أشراف مكة أنفاسهم وهم يتطلعون الى أول قادم من باب المسجد. وفجأة علت أصواتهم: هذا الأمين. رضينا. هذا محمد. كان محمد صلى الله عليه وسلم هو أول من دخل المسجد، وكان قومه يلقبونه آنذاك بالأمين، لصدقه وكرم أخلاقه.

بمقدم الصادق الأمين تبخرت أجواء التوتر وسادت أجواء الرضا.

حدثوه بالخبر، فألهمه الله حلا بسيطا وعبقريا في آن واحد. طلب ثوبا يقدر على تحمل ثقل الحجر فجيء به، فوضعه فيه، ثم دعا ممثلي القبائل الى أن يأخذ كل منهم بناحية من الثوب، ويرفعوا الحجر مجتمعين. فلما وصلوا بالحجر الى موقعه من البناء، أخذه الرسول صلى الله عليه وسلم ووضعه في مكانه وبنى عليه. وانتهت بذلك أزمة كبيرة كادت تشعل حربا بين الناس.

لا تدل هذه القصة على حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن تصرفه وقدرته على معالجة المواقف الصعبة المعقدة فقط، ولكنها تدل أيضا على نظرة زعماء القبائل في مكة وأهلها اليه. كان بالنسبة اليهم رمزا للصدق والأمانة، والصدق والأمانة أمران مهمان للغاية في شخص سيتلقى بعد خمس سنوات فقط أمانة عظيمة من ربه ويكلف بإبلاغها الى الناس في كل أنحاء العالم.

بلغ محمد عليه الصلاة والسلام سن الأربعين، وهو رجل لم تعرف عنه منقصة قط. كان محبا لزوجته برا بها وبأطفاله. وكان معينا لأعمامه، وخاصة لأبي طالب الذي كفله يوم كان صغيرا في السادسة من عمره. ودفعته أخلاقه الكريمة ليرد جميل عمه الذي كفله في سنيه الأولى، وذلك بأن قام هو نفسه بكفالة واحد من أبناء أبي طالب الكثر، وهو علي الذي تزوج لاحقا بفاطمة بنت الرسول وغدا له شأن عظيم في تاريخ الإسلام. وكان محمد صلى الله عليه وسلم أيضا برا بقومه في مكة، يحبهم ويحبونه، ويرون فيه مثالا للصدق والأمانة.

ولم يعرف عن النبي قط أنه عبد الأصنام قبل نزول الوحي عليه. كانت فطرته تأبي عليه أن يسجد لأصنام يصنعها الناس بأيديهم ثم يتوهمون أنها قادرة على نفعهم أو ضرهم. وقد عود نفسه في تلك المرحلة من عمره على التحنث في جبال مكة، وخاصة في شهر رمضان من كل عام، في غار هناك يدعى غار حراء. كان يعتزل الناس ويخلو الى نفسه متأملا فيها وفيما حوله من جبال وسهول ووديان وفيما يحيط به وبالعالم من أحداث.

لكن تهيئة الأنبياء لحمل رسالة الله الى عباده لا تأتي في الأساس بعلم خاص يتعلمه الإنسان أو بتربية روحية من أي نوع. إنها في البداية والنهاية اصطفاء من الله سبحانه وتعالى. هو سبحانه الذي اصطفى نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وبقية الأنبياء ليكونوا رسلا بينه وبين الناس. وهو سبحانه من اصطفى عبده محمدا بن عبد الله ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين.

 

(1) ـ السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام. الجزء الأول بيروت: دار الجيل، بدون تاريخ. ص 171-172    

(2) المصدر السابق. ص 172-173

(3) ـ المصدر السابق. ص 174

(4) ـ المصدر السابق. ص 179

معلومات عنّا Dr. Hechmi Hamdi

Mohamed Elhachmi Hamdi (Ph.D), SOAS graduate (University of London), Leader of Tayyar Al Mahabba Party in Tunisia and fourth placed presidential candidate in the 2014 elections; author of “the Politicisation of Islam” (Colorado: Westview Press, 1988); “The Making of an Islamic Political Leader” (Colorado: Westview Press, 1988); “Muhammad for the Global Village” (Riyadh: Maktaba Dar-us-Salam, 2008). Email: info@alhachimi.org

0 comments on “الفصل الأول من كتاب الدكتور محمد الهاشمي الحامدي: السيرة النبوية للقرية العالمية ـ طبع أول مرة عام 1996

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: