عنوان هذا الفصل: إلى حنين والطائف وتبوك
ذاع خبر فتح مكة المكرمة وتحريرها في كل أنحاء الجزيرة العربية، وبدا واضحا أن المنطقة تدخل عهدا جديدا تحت راية الإسلام. وكان زعماء القبائل العربية المحيطة بمكة يراقبون تطورات الأحداث. بعضهم فرح بها وفهم نتائجها الكبرى، وعلى رأسها تعزيز موقع الجزيرة العربية كمصدر إشعاع وهدى في العالم بأسره. وبعضهم لم يسلّم بما جرى، وفضل المعاندة والمكابرة على الإستجابة لنداء الحياة والحرية.
وفي صفوف المسلمين سرت أجواء نشوة كبيرة وحماسة غامرة بعد الفتح. وكثيرا ما تحصل بعض التجاوزات وترتكب بعض الأخطاء في مثل هذه الظروف.
من هذه التجاوزات ما كان من أمر خالد بن الوليد عندما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع قبائل من العرب إلى منطقة أسفل تهامة لتعريف الناس بالإسلام، فقتل عددا من سكان قبيلة بني جذيمة بن عامر من بعد أن أمّنهم. وعندما بلغ الخبر إلى النبي رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد. ودعا النبي عليا بن أبي طالب وقال: “يا علي، اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. فخرج علي حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فودى لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال، حتى أنه ليدي لهم ميلغة الكلب (أي أنه يعوضهم حتى عن المسقاة الخشبية التي تصنع ليشرب فيها الكلب). حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال، فقال لهم علي رضوان الله عليه حين فرغ منهم: هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا: لا. قال: فإني أعطيكم هذه البقية من المال احتياطا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما يعلم ولا تعلمون، ففعل.
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة شاهرا يديه حتى أنه ليرى مما تحت منكبيه، يقول: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد، ثلاث مرات”. (1)
وبعث النبي صلى الله عليه وسلم سرايا أخرى إلى مناطق مجاورة لمكة هدمت الأصنام التي كان الناس يعبدونها شركا مع الله عز وجل، ويعتقدون فيها النفع والضر ويرون أنها تقربهم إلى الله زلفى. ومن هذه السرايا سرية قادها عمرو بن العاص لهدم صنم سواع الذي كان يعظمه أهل هذيل في الضواحي المجاورة لمكة.
عندما وصل عمرو بن العاص إلى مكان الصنم سأله سادنه: ماذا تريد؟ قال: عمرو: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه. قال السادن: لا تقدر على ذلك. قال عمرو: لم؟ قال السادن: تُمنَع. يقصد أن الصنم يحمي نفسه ويمنع ابن العاص من أن يصيبه بسوء.
فرد عمرو: ويحك، فهل يسمع أو يبصر؟ ثم دنا فكسره ولم يستطع الصنم أن يمنع نفسه بشيء، وكيف يستطيع وما هو إلا حجر. ثم قال عمرو بن العاص للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله. (2)
إن انتصار الإسلام في الجزيرة العربية كان كما تدل هذه القصة المعبرة انتصارا للعقلانية على الجهالة والشعوذة، وللحرية على مذاهب الخوف والخضوع للأصنام والأوهام الفاسدة، وللإيمان بالله الواحد الأحد على عقائد الشرك والوثنية.
غزوة حنين
وعلى بعد نحو عشرين ميلا من مكة من جهة جبل عرفات، غلب التعصب على أهل هوازن وثقيف، فاجتمع العديد من فروعهم القبلية في حشد كبير للعدوان على المسلمين. كان من هذه الفروع نصر وجشم وسعد بن بكر بالإضافة إلى قلة بني هلال، وتصدى لزعامة هذا الجيش وقيادته مالك بن عوف النصري من زعماء هوازن.
خرج جيش هوازن وثقيف في حملته ضد المسلمين ونزل بواد يسمى أوطاس. وكان في الجيش وجه بارز من زعماء بني جشم اسمه دريد بن الصمة، قد فقد البصر وكبرت به السن، لكن الناس كانوا يحترمونه ويحرصون على مشورته لتجاربه الكثيرة وخبراته في الحرب.
وعندما نزل الجيش بأوطاس واجتمع الناس ومنهم دريد بن الصمة حول زعيمهم مالك بن عوف، قال دريد: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس ولا سهل دهس. أي أنه ليس مرتفعا كثير الحجر ولا سهلا لين التراب. وتساءل دريد: مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم.
لم يرتح الشيخ المجرب لما سمع فنادى مالكا وجادله وسأله لم ساق مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم. أجاب مالك: أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله ليقاتل عنهم. فغضب دريد وزجر قائد الجيش وقال: راعي ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ثم سأل دريد عن كعب وكلاب، وهما فرعان من قبيلة هوازن فقيل له أن أهل هذين الفرعين قاطعوا حملة العدوان على المسلمين ولم يشاركوا فيها، فعلق بقوله: غاب الحد والجد، ولو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب. فمن شهدها منكم: قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر. قال: ذانك الجذعان (يقصد أنهما في عمر الشباب وتنقصهما الخبرة) لا ينفعان ولا يضران.
الآن وقد اكتملت المعطيات الرئيسية لدى دريد بن الصمة صاحب الخبرة والتجربة والرأي، فقد أصبح بوسعه أن يقدم نصيحة محددة لزعيم الحملة. قال له: إنك لم تصنع بتقديم البيضة (يقصد الجماعة) بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا. ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم، ثم الق الصباء (يقصد المسلمين) على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك قد أحرزت أهلك ومالك.
انتفض مالك غاضبا، وكره أن ينافسه دريد برأي أو مشورة في قيادة هذه الحملة، فقال له بحدة: والله لا أفعل ذلك. إنك قد كبرت وكبر عقلك. والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري. فقال له الناس: أطعناك.
إنها حرب عدوانية إذن على مذهب مالك بن عوف النصري وتدبيره، وقد وصل خبرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرر التصدي لها، وخرج يوم السبت، السادس من شهر شوال، في السنة الثامنة للهجرة، على رأس جيش فيه المسلمون الذين جاؤوا معه في حملة تحرير مكة، وهم ثمانية آلاف، وألفان من المسلمين الجدد أسلموا بعد الفتح، فكان المجموع اثني عشر ألفا.
ثبات القائد وقت الشدة
هذا أكبر جيش قاده النبي صلى الله عليه وسلم منذ هجرته إلى المدينة قبل ثمان سنوات. ولاشك أن كثيرا من المشاركين في الحملة أحسوا بالزهو والأمان والإطمئنان، حتى جزم بعضهم بالنصر واعتبروه مضمونا دون شك ولا ريب.
وقد تحقق النصر بالفعل، ولكن بعد مفاجأة خطيرة وامتحان قاس، حدث بها جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وهو من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم. قال: لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه انحدارا، في عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه، وقد أجمعوا وتهيأوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد، وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد. (3)
مفاجأة عسكرية لم يحتط لها المسلمون أدت إلى ارتباكهم وانكسارهم وتراجعهم طلبا للنجاة من عدو سبقهم إلى ساحة المعركة واختار أفضل المواضع فيها وانقض عليهم بالسهام والسيوف في طرفة عين. أكثر الناس أذهلتهم المفاجأة فتراجعوا لا يلوي أحد على أحد كما قال جابر. أكثر الناس فعلوا ذلك، إلا أشجعهم وأكثرهم ثقة بالله وبالحق الذي جاء به هدى للناس، النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فقد انحاز إلى يمين الوادي وهتف في جنوده المتراجعين: أين أيها الناس؟ هلموا إلي، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله.
كثير من المتراجعين ما سمعوا أو ما رغبوا في سماع النداء، لكن عددا من المهاجرين والأنصار لبوا النداء وثبتوا مع قائدهم، ومنهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب والمغيرة أبو سفيان بن الحارث وابنه جعفر والفضل بن العباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد الذي استشهد ذلك اليوم.
ونظر بعض الذين أسلموا في حملة تحرير مكة إلى ما يجري أمام أعينهم من تراجع المسلمين وهزيمتهم فكشفوا عما بقي في نفوسهم ضد الإسلام وأهله. كان من هؤلاء أبو سفيان بن حرب، ومعه الأزلام في لمعة كنانته لم يتخلص منها رغم أنها مخالفة لتعاليم الإسلام، فقال: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر! وقال كلدة بن الحنبل وهو مع أخيه صفوان بن أمية الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الأمان بعد أن كان يفكر في ركوب البحر والهجرة من بلاده، قال: ألا بطل السحر اليوم.
ويحمد لصفوان أنه لم يشمت بالمسلمين مثل أخيه، ولو كان ذلك لاعتبارات قبلية بحتة، فقد رد على أخيه: اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن. (4)
لكن شماتة أبي سفيان وكلدة بن الحنبل كانت متسرعة. فالنبي صلى الله عليه وسلم، الشجاع المتوكل على ربه والمعول على نصره وتأييده، صمد ومعه نخبة من المؤمنين الصادقين. ويروي عمه العباس تفاصيل تلك اللحظات الصعبة: كنت امرؤا جسيما شديد الصوت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين رأى من الناس: أين أيها الناس؟ فلم أر الناس يلوون على شيء. فقال: يا عباس: اصرخ يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب السمرة. فأجابوا: لبيك، لبيك. فيذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا. وكانت الدعوى أول ما كانت: يا للأنصار. ثم خلصت أخيرا: يا للخزرج، وكانوا صبرا عند الحرب، فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه، فنظر إلى مجتلد القوم وهم يجتلدون، فقال: الآن حمي الوطيس. (5)
ثبت القائد الشجاع رغم وطأة الصدمة لم يتزعزع، فعادت الثقة إلى أصحابه، وعلى رأسهم قادة المهاجرين وصناديد الأنصار الذين ناداهم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يخيبوا ظنه. ثم سرعان ما عاد المتراجعون من المسلمين إلى ساحة الدفاع عن الحق وعن نبيهم، فاستقام الأمر لهم ودارت الدائرة على جيش المعتدين من هوازن وثقيف.
انتصر المسلمون إذن بعد امتحان عسير أول الأمر، ونزل من السماء قرآن كريم يبين نعمة الله على عباده من بعد أن غرتهم كثرتهم وكادوا يهزمون:
“ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين. ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين”. (التوبة: 25-26)
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لخصومه
تراجع المنهزمون مدحورين بعد خسائر ثقيلة لحقت بهم، وتوجهوا إلى مدينة الطائف فأغلقوا عليهم أبوابها، وتحصنوا فيها، واستعدوا لجولة جديدة من القتال. ثم لحقهم المسلمون وحاصروهم لأكثر من أسبوعين، فلما لم يقدروا على دخول المدينة لضخامة تحصيناتها تركوها وعادوا إلى مكة المكرمة مرورا بمنطقة الجعرانة. وقال مسلم غاضب من أهل ثقيف للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ادع عليهم. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد ثقيفا وأت بهم. (6)
هذا هو أهم ما في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وفي نفس كل مسلم مخلص بعده. مغانم الدنيا كلها لا تساوي جناح بعوضة بالقياس إلى هداية الناس لنعمة الإيمان بالله وتحريرهم من الخضوع للأصنام ولأي قوة أخرى على وجه الأرض. لم يدع النبي صلى الله عليه وسلم بالخسران والدمار على ثقيف، وإنما دعا لهم بالهداية، تأكيدا لحقيقة ما في قلبه الشريف من محبة للناس أجمعين.
كان النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في منطقة الجعرانة عندما جاءه وفد من هوازن، يطلب منه أن يعفو عنهم ويصفح ويرد عليهم ما خسروه في الحرب، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما طلبوا وحث أصحابه على الإقتداء به، فرد المسلمون إلى أهل هوازن جميع أسراهم.
وسأل النبي صلى الله عليه وسلم وفد هوازن عن زعيمهم مالك بن عوف الذي حشدهم للحرب ضد المسلمين فأخبروه أنه مقيم بالطائف في حماية ثقيف، فقال لهم: أخبروا مالكا أنه إن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل. فلما وصل الخبر إلى مالك أخفاه عن ثقيف كي لا يمنعوه من السفر، وجهز نفسه للخروج من الطائف، ثم خرج منها ليلا على فرسه، ووجد راحلة أخرى له تنتظره خارج الطائف فركبها، وتوجه نحو النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه في الجعرانة، فأكرمه ورد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل. وأسلم مالك بن عوف وحسن إسلامه، وولاه النبي على من أسلم من قومه. (7)
وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم عددا من زعماء قريش الذين أسلموا حديثا مثلما أعطى لمالك بن عوف، يقصد بذلك تكريمهم ويتألف بها قلوبهم وقلوب أقوامهم، وهذا مما يصنعه القادة المحنكون الذين يعرفون أقدار الزعماء حتى لو كانوا من ألد خصومهم. وكان ممن نال هذه الأعطيات أبو سفيان بن حرب، وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والحارث بن كلدة، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية وآخرون. وأعطى لآخرين كثيرين أيضا دون المائة من الإبل.
هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم وسط قومه الذين مالوا أخيرا إلى الإسلام وانفتحت صدورهم له. بحر من المحبة للناس والرأفة بهم والحرص على هدايتهم لنور الإيمان بالله وتحريرهم من أغلال الجهل والخوف والإستبداد. وقائد شجاع لا يخشى الموت ولا يتراجع أمام الأعداء وإن تراجع من حوله صناديد الرجال. وزعيم يكرم الناس وإن كانوا من خصومه الأشداء ويعطي للناس عطاء من لا يخشى الفقر. ولو كانت مغانم الدنيا هي مطلبه من الدعوة التي نذر لها حياته لكان جعل من نفسه كسرى أو قيصر، ولأسرف في الإنفاق على نفسه قبل أي إنسان آخر، ولكنه بنى حياته كلها على التواضع وعلى الزهد في الدنيا فلم تخدعه ببريقها قط، رغما أنها براقة مغرية، ولطالما خدعت القادة والزعماء على مر التاريخ.
حوار صريح بين النبي والأنصار
كانت عطايا النبي صلى الله عليه وسلم موجهة لحديثي العهد بالإسلام من قريش ومن القبائل العربية المجاورة، ولم يكن للأنصار نصيب منها، وأدى هذا إلى تململ وقلق في صفوفهم، وظن بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم مال إلى بني قبيلته بعد أن فتح الله عليه مكة وما جاورها ونسي الأنصار.
جاء سعد بن عبادة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبلغه هذه الشكوى باسم قومه، وقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت. قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فأجاب: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. فلما اجتمع الأنصار جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم، وجدة (شكوى) وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟
قال الأنصار: بلى. الله ورسوله أمَنّ وأفضل.
إن الأنصار مترددون لا يستطيعون مصارحة النبي صلى الله عليه وسلم بكل ما في نفوسهم. لذلك سألهم من جديد وهو يعرف سبب انزعاجهم: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟
وما زال الحياء يغلب الأنصار وهم الذين اشتهروا في التاريخ بأخلاقهم الكريمة وبما حملته نفوسهم من محبة عميقة صادقة للنبي صلى الله عليه وسلم. قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل.
أما وقد غلب الحياء على الأنصار فلم يجرأ أحد منهم على عرض ما دار بينهم بصراحة، فقد آن أن ينطق باسمهم أشهر من أحبهم على مدى التاريخ كله، ومن علمهم وعلم الإنسانية كلها معاني العدل في أسمى مظاهره. إن النبي صلى الله عليه وسلم هو من سيجيب وينطق بما في نفوسهم، وها هو يقول لهم بعدما رأى صمتهم وترددهم: أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَـدَقتُـم ولصُـدِّقتُـم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك.
تحدث النبي صلى الله عليه وسلم هنا كأنه المحامي الأول للأنصار، فينطق بما في نفسه هو من صدق وشفافية وتواضع واعتراف بالجميل. إنه لم ينس أبدا فضل الأنصار على الإسلام وعلى نبيه، وها هو قد لخصه في جملة قصيرة يحتاج الآخرون إلى كتب مطولة لشرحها، ويعرضه بقوة ووضوح ومن دون أي ذرة تحفظ. كرام الناس وحدهم هم من يعترف بالجميل وبالفضل لأهله.
ثم أضاف النبي صلى الله عليه وسلم: أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا (بعض نعيم الدنيا) تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرؤا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.
فبكى الأنصار حتى اخضلت لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا. (8)
أي قسم وحظ أفضل من صحبة آخر الأنبياء ومجاورته؟ وأي شرف أعظم لأهل يثرب من أن تصبح مدينتهم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يرتبط اسمه بها وبهم إلى يوم القيامة؟ وأي مكانة أرفع من أن تعود جيوش الإسلام الظافرة التي حررت مكة وما حولها إلى المدينة المنورة، تأكيدا لمكانتها كعاصمة لأول دولة إسلامية في التاريخ؟ كل مسلم يقرأ تاريخ ذلك الحوار بين النبي صلى الله عليه وسلم والأنصار يغبط الأنصار على ما قيل فيهم، ويعلم يقينا أنهم كانوا أكبر الفائزين.
حان الوقت الآن للعودة الى المدينة. ومن منطقة الجعرانة، توجه النبي صلى الله عليه وسلم الى مكة معتمرا، وبعد أداء المناسك توجه نحو المدينة المنورة، وعين قبل انصرافه عتاب ابن أسيد واليا على مكة، وكلف معاذ ابن جبل أن يبقى معه هناك يعلم الناس القرآن وتعاليم الإسلام. وكان مرتب عتاب ابن أسيد درهما في اليوم، وقد حج بالمسلمين في ذلك العام، وهو العام الثامن للهجرة، وحج مع المسلمين كثير من العرب على ما كانوا يحجون عليه من قبل فتح مكة.
في نهاية الشهر الحادي عشر من العام الهجري الثامن عاد النبي صلى الله عليه وسلم مع جيش التحرير الذي صاحبه في حملة تحرير مكة، ووصلوا المدينة ظافرين.
لقد تغيرت المعطيات وانقلبت موازين القوى لصالح معسكر الإيمان والحرية. قبل ثمان سنوات، كان المسلمون قلة مستضعفة، مستهدفة ومهددة بالاستئصال. قبل ثمان سنوات، كان النبي صلى الله عليه وسلم مهددا بالقتل، وكان طريق هجرته الى المدينة غير آمن، وتمنح الجوائز المالية المغرية لمن يأتي به الى طغاة قريش حيا أو ميتا. وخلال السنوات الثمان المنصرمة جرت معارك بدر وأحد والخندق، وفي كل واحدة من هذه المعارك كان عدد المشركين أضعاف عدد المسلمين، وكان الهدف الاستراتيجي لطغاة قريش ومن تحالف معهم من القبائل ومراكز التأثير في الجزيرة العربية استئصال الإسلام وتصفية نبيه والمؤمنين به.
لكن إرادة الله كتبت النصر للإيمان على الشرك والكفر، وللحرية على الاستبداد والطغيان، وكللت بالتوفيق والنجاح جهود النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكافأتهم على إخلاصهم لدعوة الإسلام وتضحياتهم الجسيمة من أجل مبادئهم وتمسكهم بقيم الحق والشرف والأمانة في أوقات الحرب وأوقات السلم على حد سواء.
والحق أن نصر المسلمين لم يكن هزيمة لمكة، فمكة انتصرت أيضا، وولدت ولادة جديدة، تخلصت عبرها من إرث الشرك وطبائع الاستبداد وسوءات الظلم والعنصرية، وانفتح لها باب عريض على الماضي تستعيد به هويتها الحقيقية كحاضنة لأول مسجد يعبد فيه الله على مر الدهور، وباب أكبر وأعرض على المستقبل تثبت به موقعها قبلة للمسلمين ومهوى لأفئدة الملايين من البشر في كل زمان ومكان، يقصدونها للحج والعمرة ويرونها أحب البلاد إليهم ويعلمون أيضا أنها أحب البلاد الى الله عز وجل.
إسلام الشاعر كعب بن زهير
بعد العودة من مكة المكرمة، أقام النبي صلى الله عليه وسلم فترة يستقبل وفود القبائل التي أعلنت دخولها في الإسلام، ويرسل إليها وإلى غيرها من المناطق الدعاة والمبلغين الذين يشرحون للناس تعاليم الإسلام وأركانه ومستحباته ويبينون لهم شريعة الله التي أنزلت على محمد ليتمم بها مكارم الأخلاق.
وقدم إلى المدينة أيضا في تلك الفترة كعب بن زهير، وهو شاعر كبير من أشهر الشعراء العرب، وكان ممن نظموا الشعر من قبل في هجاء النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وإذايتهم.
قبل وصوله بأيام، تلقى كعب رسالة من أخيه بجير، وهو من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ينصحه فيها باللجوء الى الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لا يرد من جاءه تائبا، أوبالنجاة والفرار الى أقاصي الأرض بعد أن امتد سلطان الدولة الإسلامية واتسع في أنحاء الجزيرة العربية. وصلت الرسالة الى كعب، واشتد خوفه ممن كانوا محيطين به، وظن أن المسلمين سيقبضون عليه ويعاقبونه على ما سبق من عداوته لهم، وقد كان الشعر قديما وحديثا من أشد وسائل الحرب الإعلامية والنفسية والسياسية عند العرب والمسلمين، ولعل في هذا دليل على تقديرهم للأدب والشعر وتأثرهم البالغ بهما.
اختار كعب أن يلجأ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدل الفرار في أقاصي الأرض، فسافر إلى المدينة ودخلها متنكرا، ونزل عند رجل يعرفه من قبيلة جهينة. حتى إذا دخل وقت صلاة الفجر توجه مع الناس الى المسجد، وصلى الصبح خلف النبي صلى الله عليه وسلم.
بعد الصلاة اقترب كعب من الرسول صلى الله عليه وسلم، ووضع يده في يده، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف هيأته من قبل.
قال كعب: يا رسول الله، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. قال كعب: أنا يا رسول الله كعب بن زهير. سمع رجل من الأنصار اسم الشاعر المعروف فقام منتفضا: يا رسول الله، دعني وعدو الله أضرب عنقه، وكان الأنصاري عليما بعنف الهجاء الذي لحق النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من كعب بن زهير. لكن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه: دعه عنك فإنه قد جاء تائبا نازعا عما كان عليه.
ثم استأذن كعب في إلقاء قصيدة أعدها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم فاذن له، فألقى قصيدة مشهورة في الأدب العربي يقول مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
ثم قال يصف حاله قبيل قدومه المدينة وقراره باللجوء إلى أمان الإسلام:
تسعى الغواة جنابيها وقولهم إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول
وقال كل صديق كنت آمله لا ألهينك إني عنك مشغول
فقلت خلوا سبيلي لا أبا لكم فكلما قدّر الرحمن مفعول
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوما على آلة حدباء محمول
نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم أذنب ولو كثرت في الأقاويل
إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول
هذه أبيات قليلة من قصيدة كعب الطويلة، وقد مدح فيها أيضا المهاجرين الذين قدموا مع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة دفاعا عن الإسلام، لكنه لم يقل شيئا في الأنصار، لأنه غضب من الأنصاري الذي أراد قتله عندما عرف هويته في المسجد. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لولا ذكرت الأنصار بخير فإنهم لذلك أهل. (9)
فاستجاب كعب وقال في قصيدة طويلة هذه بعض أبياتها:
من سره كرم الحياة فلا يزل في مقنب من صالح الأنصار
ورثوا المكارم كابرا عن كابر إن الخيار هم بنو الأخيار
والبائعين نفوسهم لنبيهم للموت يوم تعانق وكرار
ونال كعب أمان النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة جميلة أعجبت من سمعها وأعجبت نقاد الشعر العربي ومحبيه في كل الأجيال، وبقيت قصتها رمزا لسماحة الرسول صلى الله عليه وسلم وسماحة أصحابه.
غزوة تبوك
مع أن فتح مكة وتحريرها ودخول أهلها في الإسلام عزز مكانة الدولة الإسلامية في الجزيرة العربية وأعطاها الهيبة والقوة في نفوس كل من كانت تحدثه نفسهم بالشر والعدوان، فإن الإمبراطورية الرومانية في الشام بسلطانها وبنفوذها الممتد الى شمال الجزيرة العربية بقيت تمثل تهديدا حقيقيا للدولة الإسلامية. كانت معركة مؤتة التي استشهد فيها زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة قد شغلت الإمبراطورية الرومانية ومراكز النفوذ التابعة لها عن التحرش بالمسلمين فترة من الزمن. لكن أخبارا وصلت الى النبي صلى الله عليه وسلم بعد عودته من تحرير مكة تفيد بأن الرومان يخططون لعدوان جديد، وأن زعيمهم هرقل أعد جيشا ضخما من أربعين ألف مقاتل يريد به القضاء على الإسلام والمسلمين.
شاع هذا الخبر أيضا بين عامة الناس إلى درجة أن بعضهم توقع أن يرى جيوش الإمبراطورية الرومانية عند أطراف المدينة المنورة. من ذلك مثلا أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب يريد أن يخبره بأن النبي صلى الله عليه وسلم غاضب من زوجاته، فلما رأى عمر الجزع على وجهه ظن أن الرومان وأعوانهم هجموا، وسأله: هل جاء الغساني؟! والغساني ملك من ملوك غسان العاملين تحت إمرة وحماية الامبراطورية الرومانية في منطقة الشام.
كان الخطر حقيقيا، لأن الإمبراطورية الرومانية قوة عظمي في النظام العالمي السائد آنذاك، والتهديد الذي تمثله يمس مصير الدولة الإسلامية بشكل حاسم. كما أن الانتصار الحاسم داخل الجزيرة العربية يمكن أن يتبدد ويختفي أثره إذا شعرت القبائل العربية وغيرها أن بقاء دولة المدينة ظرفي ومؤقت وأنها عاجزة عن حماية نفسها أمام أطماع الرومان وحلفائهم في الشام.
اختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد على هذه المخاوف ويقلب المعادلة بقرار استراتيجي تمثل في الإعلان عن حملة عسكرية كبيرة تخرج تحت قيادته إلى مراكز المعتدين المتربصين، وتعلن للجيوش الرومانية والقبائل المتحالفة معها ولأهل الجزيرة العربية كلها أن الدولة الإسلامية وجدت لتبقى، وأن لأهلها من الثقة بأنفسهم ورسالتهم وإمكانياتهم ما يجعلهم قادرين على الدفاع عن أنفسهم ورد أي خطر أو عدوان.
لكن الوقت الذي قرر فيه النبي صلى الله عليه وسلم التحرك نحو تبوك في شمال الجزيرة العربية وافق فترة عسر وضيق، وشدة من الحر وجذب من البلاد. وكانت ثمار المزارع قد طابت لأصحابها ونضجت وآن أوان قطافها والناس يتجنبون الخروج لشدة الحر ويحبون الاستمتاع بثمارهم وظلال مزارعهم. في هذا الظرف الصعب، أبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالاستعداد للخروج في غزوة جديدة، وأعلمهم أن مقصده تبوك، وأن العدو المراد صده أقوى وأخطر من كل عدو سابق لأنه جيش القوة الدولية الرئيسية في المنطقة، أي جيش الإمبراطورية الرومانية، ولم يكن له من منافس جدي آنذاك إلا جيش الإمبراطورية الفارسية.
تبرعات أبي بكر وعمر وعثمان
سميت هذه الحملة بغزوة العسرة نظرا لخطورة العدو وشدة الحر ونقص الموارد المتاحة لها، وأيضا بسبب التحركات التي قام بها عدد من المنافقين داخل المدينة لتثبيط الناس عن المشاركة فيها، حتى قال بعضهم لبعض لا تنفروا في الحر. وحث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه المخلصين من أصحاب الغنى والسعة على التبرع للحملة والمساهمة في تجهيز الجيش، فاستجاب كثير منهم، وكان أكثرهم في العطاء والسخاء عثمان بن عفان، صهر النبي صلى الله عليه وسلم وثالث الخلفاء الراشدين، فقد أنفق ألف دينار، حتى قال عنه النبي: اللهم أرض عن عثمان فإني عنه راض. (10)
وقيل عن عثمان أنه كان جهز قافلة تجارية للشام فيها مئتا بعير، فتصدق بها وبما فيها للنبي صلى الله عليه وسلم، وتصدق بمئة بعير أخرى بما عليها من بضائع، بالإضافة الى الألف دينار التي نثرها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل أنه تصدق بالمزيد حتى بلغ ما وفره للحملة تسعمائة بعير ومائة فرس، بالإضافة الى الأموال. (11)
وجاء أبو بكر الصديق بماله كله، وكان أربعة آلاف درهم، فتصدق بها للنبي صلى الله عليه وسلم. وعندما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم عما ترك لأهل بيته أجابه: تركت لهم الله ورسوله. وجاء عمر بن الخطاب بنصف ماله، وجاء العباس بن عبد المطلب عم النبي بمال كثير، وتصدق آخرون كثيرون غيرهم.
ومع كل هذه الصدقات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستطع تأمين كل حاجيات الحملة، سواء من جهة الزاد أو المراكب، فقد كان في جيش المسلمين نحو ثلاثين ألف مقاتل، بينما كان عدد الإبل المتاحة لهم قليلا. وبلغ بهم الأمر أن البعير الواحد عندهم كان يتعاقب عليه ثمانية عشر رجلا، كما أنهم أضطروا لأكل أوراق الشجر، وواجهوا صعوبات شديدة في تأمين ما يحتاجونه من الماء خلال رحلتهم الصعبة.
بعض المسلمين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل خروجه يطلبون منه راحلة يركبونها للمشاركة معه في الحملة، ولما اعتذر لهم لأنه لا يجد ما يحملهم عليه، تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا بسبب عدم قدرتهم على الخروج مع بقية المسلمين والمساهمة في إنجاح الحملة. من هؤلاء عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل، وجدهما ابن يامين بن عمير يبكيان فسألهما: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه. فتبرع لهما ابن يامين بجمل وزاد من التمر فخرجا في الحملة شاكرين مسرورين.
حماس الفقراء.. وقصة أبي خيثمة وأبي ذر
مقابل حماس الأغلبية الساحقة من المؤمنين للمشاركة في حملة تبوك، ومشاعر الحزن الشديدة التي كانت تتملك الواحد منهم إذا لم يجد راحلة يركبها للخروج مع الناس، كان المنافقون، بسبب قلوبهم المريضة وسوء طويتهم، يبحثون عن أي عذر للقعود وعدم الخروج، وقد بخلوا بأموالهم ولم ينفقوا في تمويل الحملة، كما أنهم سخروا من المنفقين والمتصدقين.
ثم لم يكفهم ذلك، وإنما حاولوا أيضا تخويف المسلمين وتثبيطهم، حتى قال بعضهم لبعض المؤمنين: أتحسبون جلاد بني الأصفر (يعنون الروم) كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال. وعندما سأل عمار بن ياسر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض المروجين لهذه الإشاعات والمخاوف اعتذر منهم رجل يدعى مخشن بن حمير فعفى عنه، وغير اسمه وسأل الله أن يرزقه الشهادة وأن لا يعلم بمكانه، فكان من خبره أنه استشهد يوم اليمامة ولم يعثر له على أثر.
وكان ممن هم بالقعود وعدم المشاركة في الحملة صحابي يدعى أبا خيثمة، وقد عاد ظهرا إلى بيته في يوم حار بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك بمدة قليلة، ووجد زوجتيه جهزتا له عريشا يستظل به، ورشتاه بالماء، وأعدتا طعاما شهيا وماءا باردا يروي ظمأ العطشان في مناخ صحراوي جاف وصيف شديد الحر. فلما رأى ما أُعِـدَّ له من نعيم تذكر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح (الشمس) والريح والمطر، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مهيأ، وإمرأة حسناء، في ماله مقيم. ما هذا بالنصف (أي بالعدل)! وتوجه بالخطاب إلى زوجتيه: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيئا لي زادا. وما هي إلا هنيهة قصيرة حتى ركب أبو خيثمة جمله وسلك الطريق مسرعا يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن أدركه في تبوك.
في الطريق، لقي أبو خيثمة عمير بن وهم الجمحي فترافقا، ولما أصبحا على مسافة قليلة من جيش النبي صلى الله عليه وسلم طلب أبو خيثمة أن يسبق ويتقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحده فأذن له صاحبه. ولما اقترب، قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة. فقالوا: يا رسول الله هو والله أبو خيثمة. فلما وصل وأناخ جمله وسلم على صاحب الرسالة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أولى لك يا أبا خيثمة، أي: هذا هو مكان مسلم صالح مثلك، مع المؤمنين في كل حال وليس مع القاعدين والمخلفين. ثم سمع النبي صلى الله عليه وسلم قصة خيثمة وقال له خيرا ودعا له بخير.
ومن أخبار تلك الحملة أيضا أن الناس قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أثناء أيام المسير الأولى من المدينة إلى تبوك: يا رسول الله، قد تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره. فقال: دعوه فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه. وأبو ذر الغفاري صحابي مشهور من صحابة النبي اسمه جندب ابن جنادة، وكان قد ركب بعيرا ثقيل الخطو، فلما أبطأ به وبعدت المسافة بينه وبين الحملة، أخذ متاعه من فوق الجمل وحمله على ظهره ومشى على قدميه يتبع أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى اقترب منه في منزل من المنازل. ونظر ناظر من المسلمين فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمر رجل يمشي على الطريق وحده باتجاه معسكر المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كن أبا ذر. فلما اقترب وعرفه المسلمون، قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر. قال النبي صلى الله عليه وسلم: رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده ويبعث وحده.(12)
كانت مسيرة الجيش المسلم محفوفة بصعاب كثيرة، وقد أصابهم في حملتهم تلك إلى تبوك تعب شديد وجوع وعطش، لكنهم صبروا، وكان أكثرهم شجاعة وتحملا زعيمهم محمد صلى الله عليه وسلم. ولما وصلوا إلى تبوك، عسكروا هناك واستعدوا لمواجهة جيش الإمبراطورية الرومانية إن أقبل، لكن الرومان تراجعوا عن خيار الحرب وفقدوا حماسهم له، بعد أن عرفوا أن المسلمين مستعدون للدفاع عن أنفسهم وليس في نفوسهم خوف أو تفكير في الخضوع والإستسلام.
أمان الله ورسوله لغير المسلمين
رغم كل المشاق والصعوبات، أثمرت حملة تبوك ووصلت رسالتها القوية لكل من يهمه الأمر، وخلاصتها أن الدولة الإسلامية الوليدة قوية وقادرة على الدفاع عن نفسها والتصدي لكل المعتدين. وعرف حكام الجهات المجاورة لتبوك أن قوة الإسلام صاعدة، فجاء حاكم منطقة أيلة يطلب الصلح والأمان وجاء أهل جرباء وأذرح يطلبون الصلح والأمان، وكلهم يقبل بدفع ضرائب للدولة الإسلامية مقابل تلك الحماية، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما طلبوا، وأعطاهم ذمة الله وذمة رسوله.
وكان كتابه ليحنة بن رؤية حاكم أيلة ضامنا لهذه الذمة، أي لهذا الأمان وهذه الحماية، وفيه: “بسم الله الرحمن الرحيم. هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤية وأهل أيلة، سفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله، وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر. فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس. وإنه لا يحل أن يمنع ماءا يريدون ولا طريقا يريدون من بر أو بحر”. (13)
ذمة الله ورسوله أمان من المسلمين لغيرهم، فيها السلام والحماية واحترام الحقوق وأداء الأمانة والوفاء بالعهد. وهذا ما ناله أهل أيلة بمصالحتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما ناله أيضا أكيدر بن عبد الملك ملك دوما الذي جاء به خالد بن الوليد إلى النبي صلى الله عليه وسلم. واستمر مقام النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك قريبا من عشرين يوما، أثبت خلالها للمتربصين به شرا في عاصمة الإمبراطورية الرومانية وفي صفوف حلفائها، وكذلك في صفوف من بقي مرتابا أو معاديا من القبائل العربية، أن دولة الإيمان والتوحيد والحرية التي قامت في المدينة المنورة وجدت لتبقى، وأنها قادرة على الدفاع عن نفسها أمام كل صنوف الظلم والعدوان.
وبعد حوالي خمسين يوما من خروجه من المدينة المنورة، عاد النبي صلى الله عليه وسلم مع من خرج معه في تلك الحملة الشاقة الصعبة إلى مواقعهم ظافرين منصورين، وقد زادت عزتهم وهيبتهم ومكانتهم إقليميا ودوليا، وكانت تلك آخر غزوة قادها نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم في حياته.
وعندما لاحت للعائدين معالم مدينتهم بعد ذاك السفر الطويل، قال النبي صلى الله عليه وسلم متحدثا عنها وعن جبل أحد: هذه طابا وهذا أحد، جبل يحبنا ونحبه. (14)
وخرج أهل المدينة من النساء والأطفال وعموم من لم يخرج في الحملة بعذر شرعي، خرجوا يستقبلون الجيش العائد وينشدون:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وثمة كتاب ومؤرخون يرون أن هذه الأبيات أنشدت في استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم عند وصوله إلى المدينة مهاجرا. لكن تاريخ انشادها أمر ثانوي، لأن جوهر ما فيها، أي الإرتباط الوثيق بين النبي صلى الله عليه وسلم والمدينة وأهلها، أمر لا يختلف عليه إثنان ولا يمكن أن ينكره إنسان.
ومما جرى في طريق العودة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهدم مسجد ضرار، وهو مسجد بناه عدد من المنافقين الذين يضمرون العداوة للإسلام وأهله، وأرادوه مركزا يتجمع فيه من يحمل مثلهم هذه العداوة، تحت ستار القدوم إلى الصلاة والذكر والعبادة في بيت من بيوت الله. وهذا دليل على أن أقدس الأماكن وعلى رأسها المساجد يمكن أن تتخذ مراكز تآمر وإفساد إذا انقادت النفس البشرية لنوازع الشر والحقد والكراهية. وقد نزل في أمر هذا المسجد قرآن كريم جاء فيه:
“والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون. لا تقم فيه أبدا، لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه”. (التوبة: 107- 108)
وفي المسجد النبوي الشريف جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم كثير من المنافقين يختلقون المبررات ويعتذرون له عن تخلفهم وعدم مشاركتهم في الحملة فقبل منهم ظاهر أعذارهم لكن سوء نواياهم كان واضحا ومعلوما له، وكان معلوما قبل ذلك لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
قصة المخلفين الثلاثة
لكن ثلاثة من المخلفين لم يكذبوا ولم يختلقوا الأعذار. هؤلاء ثلاثة لم يعرفوا بنفاق، فاختلف وضعهم عن بقية المعتذرين، وحماهم إيمانهم أن يتشبهوا بالمنافقين وأن يخترعوا أسبابا كاذبة لموقفهم المشين. وكذلك أيضا أختلف موقف النبي صلى الله عليه وسلم معهم، فهو قبل أعذار المنافقين الكاذبة وأوكل نواياهم إلى من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لكنه أمر أصحابه بمقاطعة هؤلاء الثلاثة الذين اعترفوا بأخطائهم وبأنهم تخلفوا من دون عذر ولا سبب، وكانوا في ذلك صادقين.
الإيمان يزيد وينقص، وقد يضعف الإنسان المؤمن في مواجهة بعض اختبارات الحياة المختلفة. وقد وجه القرآن الكريم المؤمنين إلى تعهد إيمانهم وتجديده بالذكر والطاعة ومكافحة الهوى، وأكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من أحاديثه ووصاياه. لكن أسوأ ما يمكن أن يقع فيه المؤمن هو الكذب، لأن الكذب خصلة ذميمة، وقد نزل الوحي يوصي المؤمنين: ” يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين”. (سورة التوبة: 119)
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصدق وحذر من الكذب، وقال: “عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا”ً. (15)
وهؤلاء المؤمنون الصادقون الثلاثة تخلفوا في لحظة ضعف، لكنهم لم يسقطوا في الاختبار الآخر عندما عاد النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وإنما اعترفوا بتقصيرهم وصدقوا فيما قالوه للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان لهم شأن آخر يرويه واحد منهم في هذه القصة المؤثرة:
قال كعب بن مالك رضي الله عنه: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها.
وأضاف كعب: كان من خبري أني لم اكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا، ومفازا، وعدوا كثيرا، فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد. والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ، (يريد الديوان) فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيُخفَي له ما لم ينزل فيه وحي الله.
وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال. وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا. فأقول في نفسي: أنا قادر عليه. فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه ولم اقض من جهازي شيئا. فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا، (تحركوا باتجاه تبوك) لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا. ثم غدوت، ثم رجعت، ولم أقض شيئا. فلم يزل بي حتى أسرعوا، وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك.
فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء. ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه ونظره في عطفه. فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول بماذا أخرج من سخطه غدا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي. فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما، زاح عني الباطل وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب فأجمعت صدقه. وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس. فلما فعل ذلك، جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله.
فجئته، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب. ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيتُ جَـدَلا. ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله. لا والله ما كان لي من عذر. والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. فقمت.
وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلفون. قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. فوالله مازالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي. ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك. فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد. وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني. حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس الي، فسلمت عليه فوالله ما رد السلام. فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت. فعدت له فنشدته، فسكت. فعدت له فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار.
فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان، فإذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بجار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرته بها.
حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل أعتزلها ولا تقربها. وأرسل إلى صاحبيّ مثل ذلك. فقلت لإمرأتي: الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. فجاءت إمرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا ولكن لا يقربك. قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله مازال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا.
فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في إمرأتك كما أذن لإمرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب؟
فلبثت بعد ذلك عشر ليال، حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا. فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر! فخررت ساجدا وعرفت أنه جاء فرج وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر.
فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبيّ مبشرون، وركض إلي رجل فرسا. وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل وكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ.
واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيتلقاني الناس فوجا فوجا يهنوني بالتوبة يقولون: لتهنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهناني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة. فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك. قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه.
فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. قلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. فقلت يا رسول الله: إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا. وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت. وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: “لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والإنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم، ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خلفوا، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم. يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين”.
فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال تبارك وتعالى: “سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون، يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين”.(16)
وهكذا اكتملت قصة غزوة تبوك بانتصار الصدق على الكذب، تأكيدا على نقاء الرسالة التي جاء بها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، تماما لما سبق به إبراهيم وموسى وعيسى، وسائر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، الذين اتفقوا جميعا على الدعوة للإيمان بالله وطاعته والالتزام بالشرف والأمانة والعدل والصدق ومكارم الأخلاق.
(1) ـ السيرة النبوية لابن هشام. الجزء الرابع. مصدر سابق. ص 55
(2) ـ الرحيق المختوم. ص 305
(3) ـ السيرة النبوية لابن هشام. الجزء الرابع. ص 64
(4) ـ المصدر السابق. ص 65
(5) ـ المصدر السابق. ص 66
(6) ـ السيرة النبوية لابن هشام. الجزء الرابع. ص 98
(7) ـ المصدر السابق. ص 100
(8) ـ المصدر السابق. ص 106
(9) ـ السيرة النبوية لابن هشام. الجزء الرابع. ص 117
(10) ـ المصدر السابق. ص 119
(11) ـ الرحيق المختوم. ص 321
(12) ـ السيرة النبوية لابن هشام. الجزء الرابع ص 124
(13) ـ المصدر السابق. ص 125
(14) ـ الرحيق المختوم. ص 324
(15) ـ حديث صحيح رواه البخاري ومسلم.
(16) ـ اعتمدت نص قصة كعب بن مالك كما وردت في صحيح البخاري. مصدر سابق. الجزء الثالث. ص 86-90
0 comments on “الفصل الرابع عشر من كتاب الدكتور محمد الهاشمي الحامدي: السيرة النبوية للقرية العالمية ـ طبع أول مرة عام 1996”