عنوان هذا الفصل: تعريف الإسلام وإضاءات عن آل إبراهيم
قبل الختام، أقترح على القارئ الكريم التوقف عند بعض المعطيات أو الخلاصات الأساسية عن الإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم ودعا جميع الناس إليه، وعن علاقة خاتم النبيين بمن سبقه من الأنبياء والمرسلين، عليهم جميعا أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
نزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم يوم عرفة يؤكد اكتمال رسالة الإسلام: “اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا”. (المائدة: 3)
الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، واختاره لهم منهاجا يوصل إلى مرضاته وجناته ويحقق السعادة والسكينة والفوز للمؤمن في الدنيا والآخرة.
وقد نال النبي محمد صلى الله عليه وسلم شرف تبليغه للناس، فأدى الأمانة بحقها، وأزاح الظلمة والضلالة عن أعين الناس، وجسد مبادئ الدين في أخلاقه وسلوكه.
وقد تبين من الفصول السابقة أن الإسلام هو أن يشهد الإنسان أنه لا إلاه إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت إن استطاع إليه سبيلا. تلك أركان الإسلام الخمسة.
ومن مقتضيات صحة الإيمان أن يؤمن الإنسان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر.
ومن مقتضيات صحة الإيمان أيضا أن يؤمن الإنسان بالقدر خيره وشره، ومن معاني ذلك أن يؤمن بأن الله تعالى عليم بكل شيء، بما كان وما يكون في كل زمان ومكان، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه كتب ذلك في اللوح المحفوظ، وأن قدرته وإرادته ظاهرتان على كل شيء، لا يحدث أمر أو يكون شيء إلا بمشيئته وإرادته عز وجل، وهو على كل شيء قدير.
وقد عرف بعض أهل العلم هذا البند من بنود الإيمان بأنه: «الإقرار بأن الله تعالى علم كل شيء وكتب مقادير كل شيء، وكل شيء بإرادته ومشيئته وأنه خالق كل شيء. يخلق ما يشاء فعّال لما يريد، ما شاءه كان، وما لم يشأ لم يكن، بيده ملكوت كل شئ، يحي ويميت، وهو على كل شئ قدير. يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، خلق الخلق، وقدر أعمالهم وأرزاقهم وحياتهم وموتهم.
فالإيمان بالقدر يبعث في النفس اليقين والرضا، والطمأنينة، والأمن، والسعادة، والركون إلى الله العلي العظيم”. (ورد هذا التعريف في موقع الإسلام في الشابكة “الانترنت” التابع لوزارة الأوقاف السعودية).
وحول هذه الأركان الخمسة، الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج، تتكامل بقية تشريعات الإسلام، من أوامر ونواهي، من حلال وحرام، ومن سنن ومستحبات ومكروهات.
أمر الإسلام بكل خير، من ذلك بر الوالدين وصلة الرحم وإكرام الجار ونجدة الملهوف والصدق في القول والوفاء بالوعد والإحسان للمحتاجين والتواضع والرفق بالحيوانات والتبسم في وجوه الناس وإفشاء السلام وإماطة الأذى عن الطريق. إنه دين الحب والسلام ومكارم الأخلاق.
ونهى الإسلام عن شرب الخمر والميسر وأكل الميتة، ونهى أيضا عن الكذب والغيبة والنميمة والغدر والتكبر والفحش في القول وعن كل خلق ذميم.
جعل الإسلام الإباحة أصل الاشياء في أمور الحياة والدنيا، ونهى عن أمور محددة ذكرنا أمثلة لها، وحرم أمورا أخرى عدها من كبائر الذنوب، مثل الشرك بالله والقتل والزنا والسرقة وعقوق الوالدين وشهادة الزور وأكل مال اليتيم وقتل المعاهد، أي من كانت له ذمة الله ورسوله من غير المسلمين.
ويوجد تفصيل لهذه المسائل في عدد من آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. من ذلك ما جاء في سورة الأنعام:
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”. (الأنعام 151-153)
وأمر الإسلام بالشورى، وجعل كرامة الإنسان حقا إلاهيا وليس منحة من حاكم أو زعيم، وكرّم المرأة وأعطاها حقوقها، وأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء العمال حقوقهم، وأوصى المسلمين بالوحدة والتضامن، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الشرك بالله هو الذنب الأعظم
الذي يجب على المسلم أن يتجنبه
بين القرآن الكريم، وأكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأعماله، أن الله تعالى رحيم بعباده، يريد لهم الخير، وأنه غفور رحيم.
الذنب الوحيد الذي لا يغفره الله عز وجل هو الشرك به، ولذلك كان التوحيد أهم أمر دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا إليه الأنبياء والرسل من قبله.
دليل ذلك ما جاء في قول الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا”. (النساء: 48) كما جاء أيضا في نفس السورة: “إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا”. (النساء: 116)
ودليله أيضا ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئا من أمتك دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر. وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الثالثة: وإن رَغِـم أنف أبي ذر.
باختصار: المفتاح الأهم للنجاة يوم القيامة هو التوحيد الخالص، وليس أي شيء آخر مما نعظمه اليوم في حياتنا ونعطيه أكبر جهدنا ووقتنا.
فإن قال قائل: نعرف أهمية التوحيد منذ أن عرفنا الإسلام، فما الداعي لتكرار الحديث عنه؟ أجبته بأنني أرى اليوم أعدادا كبيرة من المسلمين يؤمنون بالله عز وجل، ويقولون له في كل صلاة: “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين”، ويقرأون في القرآن الكريم أيضا قوله تعالى: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ” (البقرة: 186)، وقوله تعالى: “وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين” (غافر: 60)، ومع ذلك، يدعون غيره في أوقات الشدة، وينسبون قدرات عظيمة خارقة لبعض البشر من المنسوبين لأهل الصلاح، فيأتونهم في قبورهم، أو يدعونهم من بعيد، يخاطبونهم بأسمائهم عند الدعاء، يطلبون منهم الغوث والمال والنجاح وقضاء الحاجات وتفريج الكرب، وينذرون لهم النذور، ويعتقدون بيقين أنهم يسمعون دعاءهم ويقدرون على تلبية حاجاتهم.
وعندما ينبه هؤلاء المسلمين إلى أن ما يفعلونه غير صحيح، يقولون: إن هؤلاء الصالحين وسطاء لنا عند الله بسبب مقامهم الرفيع عند ربهم، وإننا نعرف أنهم إنما ينفعون ويستجيبون للدعاء بإذن الله، فلا داعي للقلق إذن أو الإعتراض.
بعض الكتاب والمفكرين والدعاة يرون في هذه الظاهرة مسألة ثانوية غير مهمة، ولا تستحق أن توضع ضمن أولويات الشعوب أو الحركات الإصلاحية أو أعلام الفكر والتجديد والتنوير.
لكنني أخالف هذا الرأي، وأرى مما تعلمته من القرآن الكريم والسنة النبوية أن هذا السلوك الذي يسلكه كثير من المسلمين بدعاء الأئمة والأولياء الصالحين مخالف لأعظم التوجيهات والتعاليم التي جاءت في القرآن الكريم وشرحها محمد صلى الله عليه وسلم، وإخوانه من الأنبياء والمرسلين من قبله، وأرى أن من مقتضيات التوحيد الخالص لله تعالى، الذي يقود لمرضاته وجناته إن شاء الله، أن يتوجه المؤمن إلى الله تعالى وحده في أوقات الرخاء والشدة، وأن لا يطلب الغوث والمدد وصلاح الذرية ونجاحهم وقضاء الحاجات وتفريج الكرب إلا من الله سبحانه وتعالى وحده.
الشجرة الكريمة
حاولت فيما سبق تلخيص أهم أركان الإسلام ومبادئه، وألفت نظر القارئ الكريم أن عبارة “الإسلام” تستخدم أيضا للدلالة على جميع ما جاء به الأنبياء والمرسلون من أول الدنيا إلى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد أكد نبي الإسلام، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، هذا التواصل والترابط بينه وبين من سبقه من الأنبياء بقوله:
“مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه. فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين”. (1)
يقودنا هذا الحديث النبوي الشريف إلى الإهتمام بالشجرة المباركة، أو النسب الكريم، من الأنبياء والمرسلين، الذين اختارهم الله بعلمه وحكمته، ليبلغوا رسالته الى العالمين، وليهدوهم الى توحيد الله وعبادته والى طريق الحق والسعادة في الدنيا والآخرة.
يعود نسب المسلمين، مثل اليهود والنصارى من قبلهم، إلى أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام الذي شرفه الله بحمل رسالة التوحيد قبل آلاف السنين، وقبل نزول التوراة على موسى عليه السلام بفترة طويلة. عاش ابراهيم عليه السلام متنقلا بين مصر والعراق، وبنى الكعبة المشرفة في مكة المكرمة.
وفي القرآن الكريم أحاديث النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم مدح كثير لفضائل إبراهيم وإخلاصه وشجاعته في قول الحق وحرصه على هداية الناس الى الصراط المستقيم.
صورة إبراهيم عليه السلام في النصوص الإسلامية هي صورة القائد الكبير، والزعيم والإمام الموجه الذي يعدل بعطائه وتفانيه في طاعة ربه وخدمة الناس عطاء أمة كاملة من الناس. ولنستعرض الآن مباشرة نموذجا من نماذج وصف إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم:
“إن ابراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين. شاكرا لأنعمه، اجتباه وهداه الى صراط مستقيم. وآتيناه في الدنيا حسنة. وإنه في الآخرة لمن الصالحين. ثم أوحينا اليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين”. (سورة النحل: 120-123)
مكارم إبراهيم عليه السلام تعرض في هذه الآيات باختصار، لكن شرحها قد يحتاج لفصول تضيق بها هذه المقدمات المختصرة من كتابنا. وفي رأس هذه المكارم جهده الكبير في تبليغ الرسالة، مما جعله إماما مقدما يهدي الى الخير والفلاح. ثم يأتي إخلاصه الكامل لله، وتفانيه في العبادة، ومداومته عليها بلا كلل، من منطلق المحبة للمعبود، والخضوع له، وتوحيد الإعتقاد به خالقا للكون وربا للعباد دون شريك.
ومن الصفات الجميلة الأخرى في أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام أنه كان شاكرا لله. فنبوته نعمة، وحفظه من قبل الله في أصعب الظروف التي مرت به نعمة، وذريته المؤمنة المطيعة نعمة. وهذه النعم كلها غيض من فيض، وقطرة من بحر. يعرف إبراهيم عليه السلام ذلك جيدا، لذلك كان من الشاكرين.
من هنا أيضا نفهم سر المكانة الخاصة لإبراهيم عليه السلام عند ربه. فقد اختاره الله ليكون رسوله الى الناس، وضمن له مقاما وجيها رفيعا عنده وعند الناس على مدى الأزمان، وجعله من عباده المقربين المصطفين الذين هداهم للصراط المستقيم، أي لنهج الإيمان الحق الذي يكفل الفوز والسعادة للإنسان في الدنيا والآخرة.
ولاشك أن من أبرز هذه النعم التي من الله بها على إبراهيم عليه السلام أنه جعل من آله وذريته أجيالا من المؤمنين بالله الداعين الى توحيده وطاعته وعبادته: “فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما”. (النساء: 54)
وتذكرنا نعمة الملك العظيم هنا باثنين من الملوك الأنبياء من ذرية إبراهيم: الملك داوود والملك سليمان عليهم السلام جميعا.
وإذا عدنا الى الآية 123 من سورة النحل التي استشهدنا بها قبل قليل في عرض فضائل إبراهيم، فإننا نجد أنفسنا منبهرين أمام القدرة المعجزة لله تعالى في عرض الرابطة التاريخية الوثيقة بين رسول الإسلام محمد بن عبد الله وأب الأنبياء إبراهيم عليه السلام. فقرة موجزة من ثلاثة أسطر تضمنت وصفا شاملا لإبراهيم ولنعم الله عليه، وتضمنت أيضا هذه العبارة: “ثم أوحينا اليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين”.
هنا نقطة الإرتكاز الأولى التي ينبغي ألا يغفل عنها أي مسلم وأي دارس للإسلام. فالرسالة التي جاء بها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم متصلة اتصالا وثيقا لا يمكن فصمه بأي وجه من الوجوه مع إبراهيم عليه السلام وملته. وأما الشعار الأول والاساس لهذه الرابطة الإبراهيمية فهو نبذ الشرك، والإقرار بأن للكون خالقا واحد لا شريك له، هو رب العباد وسائر المخلوقات الأخرى، وهو وحده الذي تجب عبادته وطاعته ومحبته.
وباختصار شديد: نحن المسلمين ننتمي ونفتخر بانتمائنا الى آل إبراهيم عليه السلام.
***
مضى ابراهيم عليه السلام الى ربه بعد أن بلغ الرسالة للناس. ثم حمل آل ابراهيم الراية من بعده، وحفظ التاريخ مكانتهم كمنارات للهدى والخير.
في التصور الإسلامي، يبرز بشكل خاص من هذه المنارات المؤثرة على مجرى التاريخ اسمان لامعان، هما موسى وعيسى عليهما السلام.
“ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى بن مريم البينات، وأيدناه بروح القدس”. (البقرة: 87)
موسى عليه السلام من أعظم الأنبياء والرسل، وفي القرآن الكريم تبجيل كبير له، وحفاوة قوية به. كما أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم أوصى المسلمين بالإحتفال بذكرى عبوره من البحر الأحمر الى فلسطين في الشهر الأول من كل سنة هجرية.
إن كفاح موسى عليه السلام لتخليص اليهود من طغيان فرعون وظلمه واستبداده، أصبح جزءا لا يتجزأ من ثقافة الإسلام في مقاومة الظلم.
كتاب موسى عليه السلام وكتاب اليهود هو التوراة. هذه حقيقة يثبتها القرآن الكريم، ولذلك اعتبر الإسلام اليهود من أهل الكتاب. والمسيحيون كذلك من أهل الكتاب، وكتابهم هو الإنجيل. ومع أن المسلمين رغبوا ومازالوا في أن يدخل اليهود والنصارى في دينهم عندما بعث الله نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام برسالة الإسلام، وهذا أمر طبيعي منهم ومن أهل كل ديانة، فإن القرآن الكريم ألزمهم باحترام اليهودية والمسيحية، وتبجيل موسى وعيسى عليهما السلام.
وفي القرآن الكريم أيضا شهادات أخرى لأتباع موسى عليه السلام:
“ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون.” (الأعراف: 159)
إن ما يجمع بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام هو أنهما ينهلان من نفس المورد العذب الصافي الذي نهل منه إبراهيم عليه السلام. كلهم أوحي اليهم من ربهم، بالقول الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
كلهم من الصفوة التي اختارها الله سبحانه لإبلاغ الناس رسالة التوحيد.
وفي اليهودية والإسلام تشابه كبير جدا في مفهوم التوحيد وفي كثير من الشرائع.
وقد مر بنا في الفصل الخامس من هذا الكتاب العهد الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة والذي كفل فيه حقوق يهود المدينة وحرياتهم الدينية ووصفهم بأنهم أمة مع المؤمنين، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
لذلك، وبالرغم من الهزات العنيفة التي أصابت علاقات المسلمين باليهود في القرن العشرين بسبب القضية الفلسطينية، فإن السمة الأقوى التي تميز تاريخ اليهود والمسلمين هي سمة التعايش السلمي والإحترام المتبادل. ذلك ما يجده الباحث في تاريخ الدولة الإسلامية بأطوارها الأموية والعباسية والعثمانية، ذلك أن الإسلام أمر المسلمين باحترام أهل الكتاب، من يهود ومسيحيين، وقرر أنه “لا إكراه في الدين”، أي نهى عن ادخال غير المسلمين في الإسلام بالقوة، وأعطى اليهود والمسيحيين في الدولة الإسلامية ذمة الله ورسوله، وجعل قتل المعاهد كبيرة من الكبائر.
هذه التشريعات الواضحة في القرآن الكريم والسنة النبوية ألزمت المسلمين بحماية حقوق اليهود، لذلك عاشوا في أمان وسلام في جميع الدول الإسلامية الكبرى، الأموية والعباسية والعثمانية، ولم يتعرضوا أبدا لما تعرضوا له في مجتمعات أخرى من تنكيل وقمع ومن جرائم مثل جريمة الهولوكوست المروعة التي وقعت في أوروبا في القرن العشرين. مثل هذه الممارسات الظالمة والجرائم البشعة بحق اليهود لم تحدث أبدا في أي بلد إسلامي، ولم يحدث أي أمر شبيه بها في أي بلد إسلامي.
عيسى المسيح عليه السلام في القرآن الكريم
لا يمكن للمسلم في أي زمان أو مكان أن يكون معاديا للسامية، علما بأن العرب انفسهم ساميون، ولا مبغضا لليهودية والتوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام.
وكذلك لا يمكن للمسلم في أي زمان أو مكان أن يكون معاديا للمسيح عليه السلام أو عدوا لتعاليمه: “ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل. وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس”. (البقرة: 87)
إن إيمان المسلم بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام شرط من شروط صحة إيمانه كمسلم. وأي شيء غير هذا لا يقبل منه كما تدل على ذلك بقوة عقائد الإسلام وتقاليده. ثم إن موسى وعيسى عليهما السلام فرعان بارزان في شجرة الرسل الكرام الذين أرسلهم الله بالهدي الصحيح الى الأمم السابقة، كلهم يدعون إلى التوحيد الخالص وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما تدل هذه الآية الكريمة: “شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا، والذي أوحينا اليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه”، (الشورى: 13) والآية الكريمة: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ “. (النحل: 36)
ترد قصة عيسى عليه السلام في مواضع كثيرة في القرآن الكريم. أما الخاصية المشتركة بين هذه المواضع فهي التبجيل الكبير للمسيح عليه السلام. اختاره الله بعلمه وحكمته لمهمة جليلة، فكانت البشارة به لأمه حدثا ضخما في تاريخ الإنسانية. وكلما نظر الباحث عن الحقيقة في القرآن الكريم، فإنه سيجد آيات كثيرة توضح بشكل جلي المكانة العظيمة لعيسى عليه السلام عند المسلمين، وتحدد جوهر دعوته التي جاء بها، وتؤكد ما خصه الله به من فضل وكرامة.
وفي مقدمة الدلائل على فضل عيسى المسيح عليه السلام وكرامته معجزة ميلاده من غير أب. إذ قدر الله وأراد واختار أن يرسل الملاك جبريل لمريم العذراء عليها السلام، لينفخ فيها بأمر الله، فتتحقق من ذلك إرادة الله في خلق رسوله عيسى عليه السلام. إنه مخلوق من مخلوقات الله، عبد من عبيده، ورسول كريم منه يبلغ دعوة الحق والتوحيد. أمر الله بقدرته أن يكون فكان. ويعرف المؤمنون والعقلاء من كل ملة وحضارة أن الله لا يعجزه شيء، وأنه على كل شيء قدير.
وهذا الآن مثال للآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عن عيسى المسيح عليه السلام:
“إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيها في الدنيا والآخرة، ومن المقربين. ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين. قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر؟ قال كذلك الله يخلق ما يشاء. إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون. ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل. ورسولا الى بني اسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم: أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير، فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله. وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله. وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم. إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين. ومصدقا لما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم. وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون. إن الله ربي وربكم فاعبدوه: هذا صراط مستقيم”. (آل عمران: 45-51)
في هذه المعجزات التي تحف بعيسى عليه السلام تكمن وجوه كثيرة من رحمة الله ولطفه بالناس. إن الرسالة الأصلية لعيسى عليه السلام لم تتغير عما كانت عليه عند موسى وإبراهيم وسائر الأنبياء والمرسلين.
رسالتهم جميعا كانت دعوة الناس لعبادة الله وحده لا شريك له، وتذكيرهم بأن هذا الكون الفسيح الجميل البديع، بما فيه من كواكب وأجرام ومخلوقات وجبال وبحار ووديان وسهول لم يخلق صدفة ولا عبثا. كما أن الإنسان الذي شرفه الله وميزه بنعمة العقل عن سائر المخلوقات الأخرى لم يخلق صدفة ولا عبثا. الكون وما فيه، والإنسان، من خلق الله القادر على كل شيء. والإنسان العاقل هو من يصدق ما جاء به إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وسائر الأنبياء والمرسلين، عليهم الصلاة والسلام، من دعوة الى عبادة الله وحده دون شريك. وبالطبع فإن الدعوة الى عبادة الله هي المدخل لتعاليم أخرى تفصيلية كثيرة، أبرزها تلك التي تحث المؤمنين على التمسك بالأخلاق الرفيعة، ومعاملة الآخرين أفضل معاملة، وأداء الحقوق الى أصحابها، وتنهاهم عن الظلم وأكل أموال الناس بالباطل.
أيد الله تعالى رسوله عيسى عليه السلام بمعجزات كثيرة تأييدا لدعوة الحق التي كلفه الله بإبلاغها لقومه. وعندما أحاط به خصومه وتآمروا عليه ليقتلوه صلبا، تقرر العقيدة الإسلامية أن الله توفاه ورفعه اليه مطهرا مكرما.
الذين تآمروا على عيسى ممن كفروا به وضاقوا بدعوته روجوا أنهم قتلوا المسيح. لكن القرآن الكريم يثبت غير هذا، ويبين أن الذي صلب وقتل إنسان آخر ألقى الله عليه شبها قويا جدا من عيسى عليه السلام، وذلك حفظا منه للمسيح عليه السلام وتثبيتا لقدره العالي الرفيع عند خالقه: “وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم”. (النساء: 157)
هذا هو عيسى عليه السلام في القرآن الكريم. نبي كريم، ورسول من أولى العزم من الرسل، دعا قومه للتوحيد الخالص وعبادة الله وحده لا شريك له. والمسلمون يؤمنون به ويحبونه ويتولونه.
والمسلمون يعتبرون المسيحيين من أهل الكتاب. وفي القرآن الكريم توجيه صريح للمسلمين في هذا الشأن: “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل اليكم، وإلاهنا وإلاهكم واحد ونحن له مسلمون”. (العنكبوت: 46)
وواضح أن استثناء الذين يظلمون في الحوار من المجادلة بالتي هي أحسن أمر يقبله العقلاء من كل ملة، لأن الذي يظلمك ويعتدي عليك لا يترك لك مجالا لحوار موضوعي يلتزم أصول الأخلاق الكريمة، وإنما يشغلك بالدفاع عن نفسك لرد عدوانه وظلمه. أما الأصل الذي يبني عليه المسلمون حوارهم مع أهل الكتاب فهو مجادلتهم بأفضل العبارات وأحسن الأساليب، وتذكيرهم بأن التوراة والإنجيل والقرآن كلها منزلة من عند الله، وبأن رب اليهود والنصارى والمسلمين هو اله واحد مهما اختلفت تسمياتهم له، وهو رب الناس أجمعين على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ودياناتهم، وهو وحده المعبود بحق، له الأسماء الحسنى، لا إلاه إلا هو، يحي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
ولا شك أن من الأمور التي لا يوجد خلاف بشأنها بين المسيحيين والمسلمين هي أن عيسى المسيح عليه السلام لقي تكريما هائلا في القرآن الكريم، مثلما هو الأمر مع موسى وابراهيم خاصة، وبقية الأنبياء والمرسلين الذين سبقوا بعثة رسول الإسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
كما أنه لا خلاف بين المسلمين والمسيحيين على أن مريم العذراء عليها السلام، أم المسيح عليه السلام، لقيت تكريما مماثلا في القرآن الكريم: “وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين. يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين”. (آل عمران: 42-43)
ومن كرامات عيسى عليه السلام أن الله تعالى آتاه الإنجيل: “وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل”. (الحديد: 27)
الإنجيل كتاب سماوي آخر يضاف الى الكتاب الذي سبقه، أي التوراة. وفي عقيدة المسلمين أن المسيحيين أيضا هم من أهل الكتاب، كما هو شأن اليهود أيضا. وفي أهل الكتاب عابدون ذاكرون يمدحهم القرآن الكريم، مربيا بذلك أتباعه على الحكم على المخالفين في الدين بالعدل والإنصاف:
“ليسوا سواء: من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات، وأولئك من الصالحين. وما يفعلوا من خير فلن يكفروه، والله عليم بالمتقين”. (آل عمران: 113-115)
إن المسلم يجد نفسه في موضع فريد، لأن صلته العقائدية قوية بكل الأنبياء والرسل. واليهودية والنصرانية معا جزء أصيل من تراثه. ولا يكون المسلم مسلما، ولا تكون عقيدته صحيحة، حتى يقر بكل ما ذكرناه من معاني التبجيل والتكريم لموسى وعيسى عليهما السلام، ولرأس الشجرة الإبراهيمية إبراهيم الخليل عليه السلام، ولبقية الأنبياء والمرسلين:
قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم. لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون”. (آل عمران: 84)
هذا بيان صريح من القرآن الكريم عن جذور العقيدة الإسلامية، وهو يتضمن أمرا للرسول محمد عليه الصلاة والسلام بإعلانه للناس كافة، بما يضع العقيدة الإسلامية في سياقها التاريخي والمنهجي الصحيح.
والأمر هنا واضح ومنطقي يقبل به الباحث المنصف ويجد عليه أدلة قوية كثيرة: إن العقيدة الإسلامية صدرت من ذات النبع الكريم الذي صدرت منه عقيدة إبراهيم وموسى وعيسى وبقية الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام جميعا. والحكمة الإلهية التي اختارت التوقيت المناسب لظهور الرسل والأنبياء في أقوامهم، هي ذات الحكمة التي اختارت أن تكون دعوة الإسلام تكملة وتتويجا لما سبقها من دعوات، وأن يكون محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين.
المولود الذي غير وجه التاريخ
الطريق الى معرفة الله ونيل رضاه يحتاج الى أدلة ومرشدين، رغم أن التوق الى هذا المقصد النبيل الشريف جزء من شخصية الإنسان على مر التاريخ. جزء من تكوينه وفطرته. ولذلك كان الدين دائما عاملا أساسيا في حياة البشرية ومقوما رئيسيا من مقومات الحضارة والتاريخ على مر العصور.
ومع أهمية هذا المعطى الفطري في شخصية الإنسان، فإنه لا يكفي لوحده. ونحن نحتاج الدليل في رحلة قصيرة داخل لندن، أو بين مدينة وأخرى في أوروبا أو آسيا. فكيف إذا كان القصد أعلى شأنا وأشرف وأنبل من أي مقصد آخر يخطر على بال بشر؟ كيف إذا كان القصد معرفة خالق الإنسان وكل ما في الكون، وعبادته بالمنهج الذي يرضيه ويقرب اليه؟
من هنا تأتي أهمية الأنبياء والمرسلين عليهم السلام جميعا. اختارهم الله بحكمته ليقولوا للناس: هذا طريق الله وصراطه المستقيم، فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأطيعوه فيما أمر به ونهى عنه لتنالوا الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة.
وقد مر بنا الدور المحوري لإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام في تبليغ هذه الرسالة. وكذلك فعل عدد كبير آخر من أنبياء الله. ويبين القرآن الكريم للمسلمين أن ما دعا اليه هؤلاء جميعا هو الدين الحق، ويسميه الإسلام. عند المسلمين إذن أن دينهم هو دين إبراهيم وآله، وليس في ذلك غرابة، لأن الذي أوحى لإبراهيم وموسى وعيسى هو من أوحى لمحمد، عليهم جميعا الصلاة والسلام. ملة إبراهيم إذن وملة الأنبياء من بعده هي ملة الحق، وهي ملة الإسلام:
“ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، ولقد اصطفيناه في الدنيا، وإنه في الآخرة لمن الصالحين. إذ قال له ربه أسلم. قال أسلمت لرب العالمين. ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب: يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت. إذ قال لبنيه: ما تعبدون من بعدي؟ قالوا نعبد الهك واله آبائك ابراهيم واسماعيل واسحاق الها واحدا، ونحن له مسلمون”. (البقرة: 130-133)
ويدل تتابع الأنبياء من بعد إبراهيم عليه السلام أن الناس كانوا ينحرفون عن الطريق الحق الذي يرضي الله وينزعون الى مسالك الشرك أو الفساد. وهكذا قضت حكمة الله أن يرسل رسله في فترات متعاقبة من تاريخ الإنسانية، وكذلك قضت حكمته أن تكون منطقة الشرق الأوسط مركز ظهور إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليه الصلاة والسلام. لعلها ليست الشرق الأوسط إذن إلا بمعيار من نظر اليها من الغرب البعيد أو الشرق البعيد. ولعلها هي الأصل الذي يحسب به الغرب غربا والشرق شرقا، وهي مركز الكرة الأرضية، بدليل أن الرسالات التي جاء بها الرسل في تلك المنطقة استطاعت أن تصل الى أبعد أركان المعمورة في أقصى الشرق وأقصى الغرب، وفي أقصى الشمال وأقصى الجنوب.
وفي مكة المكرمة وما حولها، في قلب الجزيرة العربية، كان يفترض أن يكون سكان العقود الأخيرة من القرن السادس بعد ميلاد المسيح موحدين لله مطيعين لما نزل من شرائعه السابقة في التوراة والإنجيل. وكان هناك أقليات يهودية ومسيحية بالفعل. لكن الصبغة العامة التي طغت على أغلبية سكان تلك الحقبة المهمة من حقب التاريخ كانت صبغة الشرك، وعبادة الأصنام. وبالإضافة الى ذلك، شاع الظلم والطغيان في المجتمعات التي سيطرت عليها القوى الكبرى في تلك المنطقة. وربما جاز تشبيه الاستقطاب والصراع في تلك الفترة بالحرب الباردة التي شهدها العالم في النصف الثاني من القرن العشرين للميلاد، بل لعله كان أكثر عنفا وحدة.
في تلك الفترة، أي في القرن السادس الميلادي، كان التنافس على أشده بين الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الساسانية الفارسية. وكان الإسلام بمعناه الواسع، الذي يشمل رسالات إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، محاصرا مضيقا عليه وقليل التأثير في حياة الناس.
في الجزيرة العربية بالتحديد، انتشر الشرك الى درجة أن الأصنام نصبت داخل الكعبة المشرفة، أول بيت من بيوت الله، أول بيت بني في التاريخ ليعبد فيه الله وحده. هكذا ينظر المسلمون الى الكعبة المشرفة وهكذا يقص القرآن الكريم تاريخ تأسيسها على يد إبراهيم وابنه اسماعيل عليهما السلام:
“وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا. واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. وعهدنا الى إبراهيم واسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود. وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر. قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره الى عذاب النار وبئس المصير. وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت واسماعيل: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم. ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم: إنك أنت العزيز الحكيم”. (البقرة: 125-129)
ها هو التاريخ يعرض أمام أعيننا في هذه الآيات بسرعة البرق، لكن الصورة ترسخ في الذهن أشد الرسوخ. إبراهيم واسماعيل عليهما السلام تعاونا في بناء أقدس مكان لدى المسلمين وأول مسجد عبد فيه الله وحده. ودعيا الله أن يحفظ دعوة التوحيد في ذريتهما، وأن يبعث فيهم رسولا يهديهم سبيل الرشاد والنجاح. وقد استجاب الله لدعوتهما: ففي السنة السبعين من القرن السادس للميلاد، ولدت آمنة بنت وهب، زوجة عبد الله بن عبد المطلب، ولدا ذا شأن عظيم. في الثاني عشر من الشهر العربي ربيع الأول من عام 570 بعد ميلاد المسيح عليه السلام، ولد محمد بن عبد الله، ليتغير مجرى التاريخ معه، ولتكتمل رسالات الله الى خلقه، ولتعلو راية جديدة للتوحيد، وتشيع في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب، دعوة للعدل والحرية وكرامة الإنسان والأخوة بين بني البشر.
لا يستطيع مخلوق أن يشترط شيئا على خالقه. ولكنه فقط يجتهد ويحاول أن يفهم مجريات الأمور وسنن التاريخ. وقد كان ظلما كبيرا أن تضل الملايين من بني البشر عن دعوة التوحيد بعد الجهود العظيمة التي بذلها ابراهيم وموسى وعيسى وبقية الأنبياء عليهم السلام جميعا. وكانت رايات الشرك والضلال البعيد عن طريق الله ورايات الظلم السياسي والإجتماعي مرفوعة بقوة وخفاقة في القرن الميلادي السادس، في منطقة ما يسمى الآن بالشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم.
لذلك فإن تكليف محمد بن عبد الله، في الأربعين من عمره، بتجديد رسالات الأنبياء من قبله وإبلاغها للعالم مجددا في شريعة الإسلام، كان ذلك نقطة تحول حاسمة في مجرى التاريخ البشري، لأنها رمزت الى اكتمال البناء الذي تعاقب على تشييده أنبياء الله السابقين، وأمنت الرابطة الروحية الوثيقة بين دعوات إبراهيم وموسى وعيسى والدعوة الجديدة، وهي دعوات متصلة مضمونها واحد هو الإسلام، أي توحيد الله وطاعته ومحبته وبناء الحضارة في توافق مع شريعته وهداه.
“قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم. لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون”. (آل عمران: 84)
كما أن تكليف محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الرسالة الإسلامية كان رمزا لانتصار الدين في تاريخ الإنسانية. فالذين ظنوا أن جهود ابراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ضاعت وتبددت كانوا واهمين. والطغاة الذين ظنوا أن بإمكانهم استعباد البشرية وإخضاعها لهم لتعبدهم بدلا من خالقهم كانوا واهمين.
وقد رأينا في هذا الكتاب وفي غيره من كتب السيرة النبوية كيف رفع نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه والسلام راية التوحيد والحق وكرامة الإنسان، متمما جهود من سبقوه من الأنبياء والمرسلين. إنها راية لم يرفعها بقرار شخصي منه، أو بتأمل معرفي خاص، ولكن الأمر يعود الى الله عز وجل، الذي تفضل على عباده بإرسال الأنبياء والرسل إليهم، واختار إبراهيم إماما وقدوة، واختار موسى مخلّصا لبني اسرائيل، واختار عيسى المسيح واحدا من أولي العزم من الرسل. والله عز وجل اختار محمدا ليكون رسول الإسلام، أو ليجدد دعوة الإسلام، وليكون خاتم النبيين، وفي هديه الحق والهدى والنور، وأحرى بالناس جميعا في كل زمان ومكان، أن يؤمنوا به وبالنور والخير الذي جاء به.
وقد أجمع علماء المسلمين على هذا المعنى وسعى الدعاة المسلمون في تبيينه للناس على مر العصور، وأوضحوا أن الواجب على كل إنسان عاقل أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدق بدعوته، مستندين إلى قول الله تعالى: “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ”. (آل عمران: 19)
وقد أصاب الحافظ ابن كثير، وهو من أشهر المفسرين للقرآن الكريم في التاريخ الإسلامي، ولخص القول الصحيح الفصل والنهائي في هذه المسألة عندما قال في تفسير هذه الآية:
“وَقَوْله تَعَالَى ” إِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام ” إِخْبَارًا مِنْهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا دِين عِنْده يَقْبَلهُ مِنْ أَحَد سِوَى الْإِسْلَام، وَهُوَ اِتِّبَاع الرُّسُل فِيمَا بَعَثَهُمْ اللَّه بِهِ فِي كُلّ حِين حَتَّى خُتِمُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي سَدّ جَمِيع الطُّرُق إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَمَنْ لَقِيَ اللَّه بَعْد بَعْثَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِينٍ عَلَى غَيْر شَرِيعَته فَلَيْسَ بِمُتَقَبَّلٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى “وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْر الْإِسْلَام دِينًا فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ” الْآيَة. وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَة مُخْبِرًا بِانْحِصَارِ الدِّين الْمُتَقَبَّل مِنْهُ عِنْده فِي الْإِسْلَام ” إِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام”. (انتهى النقل)
إن ختم النبوة يعني ضمن ما يعنيه أن البشرية أصبحت راشدة قادرة على التمييز وعلى مقاومة تيارات الإلحاد والشرك والاستبداد. جاء ذلك متسقا أيضا مع تطور الحضارة البشرية، ورسوخ موقع الكتابة في هذه الحضارة، بحيث أصبح بوسع الناس أن يدونوا ويحفظوا رسالة الله اليهم من دون تحريف، وأن يضمنوا للأجيال التي تأتي من بعدهم هذه استلام الرسالة واضحة نقية كما نزلت على الرسول أول مرة.
كما أن ختم النبوة في التصور الإسلامي تصديق لعهود سابقة في التوراة والإنجيل. ففي الكتابين إشارات قوية لبعثة نبي الإسلام، ويرى المسلمون في ذلك دليلا إضافيا على قوة الرابطة بين آل إبراهيم جميعا. بين اليهود والمسيحيين والمسلمين.
هكذا جاءت الرسالة التي ابتعث بها محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام عنوانا لاكتمال الرسالات السماوية. ولذلك فإن خطابها، وإن أبدى حفاوة خاصة وثابتة بأهل الكتاب، فإنه كان في جوهره خطابا موجها للعالمين. لم يكن خطابا لقريش قبيلة نبي الإسلام وحدها، ولا لسكان الجزيرة العربية فقط، ولا للعرب وحدهم، ولا لمنطقة الشرق الأوسط دون غيرها من المناطق. لقد كان خطابا للناس كافة، في كل مكان، وفي كل زمان.
قال الله عز وجل في كتابه العزيز:
“ورحمتي وسعت كل شيء: فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة، والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم. فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون.
قل يا أيها الناس: إني رسول الله اليكم جميعا، الذي له ملك السماوات والأرض، لا إله إلا هو يحيي ويميت. فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون. ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون.” (الأعراف: 156-159)
هذا هو الإطار الذي نزلت فيه الرسالة الإسلامية. وبطبيعة الحال فإن المؤرخين المتخصصين يستطيعون أن يضيفوا تفصيلات سياسية واجتماعية واقتصادية كثيرة لما ذكرنا. لكننا اخترنا التركيز على الأهم، وعلى الإطار العقائدى والتاريخي الصحيح لكل مؤمن بوجود الله وكل مؤمن بأنبيائه ورسله.
التاريخ الذي يهم هذا المؤمن عندما يتعلق الأمر بخاتم الأنبياء والمرسلين هو تاريخ آل إبراهيم. هو تاريخ موسى وعيسى وبقية الأنبياء والمرسلين. ونبي الإسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يأخذ موقعه في تاريخ البشرية في هذا السياق، ومع هذه الكوكبة المختارة من الأفراد الذين اصطفاهم الله وشرفهم بإبلاغ كلمته للناس أجمعين.
وقد عرضت الكثير من الأدلة في ما سبق من فصول هذا الكتاب لأبين على أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ولم يبخل بشيء أبدا من أجل خدمة الناس والدفاع عن العدالة والمساواة والحرية، وهداية البشر مجددا لطريق الإيمان والسعادة والفوز في الدنيا والآخرة.
وفي الحقيقة، لا يجد الباحث وصفا أفضل من التشبيه الذي استخدمه الرسول محمد عليه الصلاة والسلام وهو يصف موقعه وموقع الإسلام في تاريخ الرسالات السماوية، وهو الوصف الذي بدأنا به هذا الفصل: “إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية. فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين”.
(1) ـ صحيح مسلم. القاهرة: طبعة المطبعة المصرية ومكتبتها، بدون تاريخ. الجزء الخامس عشر. ص 51
0 comments on “الفصل الثامن عشر من كتاب الدكتور محمد الهاشمي الحامدي: السيرة النبوية للقرية العالمية ـ طبع أول مرة عام 1996”