الفصل الثاني من كتاب الدكتور محمد الهاشمي الحامدي: السيرة النبوية للقرية العالمية ـ طبع أول مرة عام 1996

عنوان هذا الفصل: عودة الإتصال المباشر بين الأرض والسماء

  

جاءت اللحظة الحاسمة في تاريخ البشرية كلها ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، عام 610 للميلاد. قضى محمد تلك الليلة متحنثا في غار حراء، وهناك كان موعده الأول مع الوحي، الصادر عن الله عز وجل، نقله اليه الملاك جبريل عليه السلام بأمر الله سبحانه وتعالى. تروي السيدة عائشة، أم المؤمنين رضي الله عنها، قصة الوحي فتقول:

“أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم. فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب اليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه ـ وهو التعبد الليالي ذات العدد ـ قبل أن ينزع لأهله، ويتزود لذلك ثم يرجع الى خديجة فيتزود لمثلها. حتى جاءه الحق في غار حراء.

 

فجاءه الملك فقال اقرأ. قال ما أنا بقارئ. قال (أي النبي صلى الله عليه وسلم) فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني فقال اقرأ. قلت ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني فقال اقرأ. فقلت ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ”. (1)

تلك كانت الآيات الأولى التي أوحى الله تعالى بها لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في ليلة تاريخية من ليالي رمضان، في العام العاشر من القرن السابع للميلاد. وتلك كانت الليلة التي عاد فيها الإتصال المباشر بين السماء والأرض من بعد أن انقطع طيلة ما يقرب من ستة قرون كاملة.

وبأمر واضح وحازم وبسيط: “اقرأ”، أعطيت إشارة الإنطلاق في تلك الليلة التاريخية لمهمة سامية نبيلة لا نظير لها في التاريخ كلف بها محمد صلى الله عليه وسلم: مهمة هداية الناس إلى التوحيد والحق والخير، إلى المعرفة والعلم النافع، وإكمال البناء الرائع الجميل الذي تعاون على تشييده إبراهيم وموسى وعيسى وبقية الأنبياء والمرسلين عليهم السلام. تلك كانت الليلة التي نزل فيها أول آيات القرآن الكريم، تضيء أركان المعمورة وتحمل بشارة نصر حاسم للمؤمنين المحبين لله وأنبيائه ومكارم الأخلاق، الكارهين للطغيان والفساد وعبادة الأصنام.

خرج محمد صلى الله عليه وسلم من غار حراء الى رحاب الجبل الذي كان يتحنث فيه وهو وما يزال تحت تأثير اللقاء الإستثنائي مع جبريل عليه السلام ومع هذا الموقف الضخم الحاسم الذي سيتغير به تاريخ الإنسانية. قال: “فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل. فرفعت رأسي الى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل. فوقفت أنظر اليه فما أتقدم وما أتأخر. وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك. فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني”. (2)

كيف يتصرف النبي صلى الله عليه وسلم الآن تجاه الحدث الضخم الذي جرى له في غار حراء: هل يحدث به الناس أم يكتمه؟ وإذا قرر الحديث عنه فبمن يبدأ؟ هل يرويه لزوجته أولا، أم لعمه، أم لواحد من أصدقائه، أم يفاجئ به أهل مكة كافة في مقر اجتماعاتهم حول الكعبة؟ إن خديجة أقرب الناس اليه، لكن هل ستصدقه وتؤيده إذا حدثها بقصته مع الملاك جبريل؟

إن ما حدث في الساعات الأولى بعد نزول الوحي أمر مهم جدا يستحق أن يتوقف عنده الناس، ودليل عظيم وموثّق على الدور التاريخي للمرأة في نصرة دين الله وسبقها الآخرين في طريق الحق والخير والإيمان.

عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الى بيته يرجف فؤاده كما روت أم المؤمنين عائشة: “فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال زمّلوني زمّلوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا. إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة، وكان امرؤا تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبراينة ما شاء الله أن يكتب. وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت له خديجة: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي: ماذا ترى؟

فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل (بتشديد الزاي) الله على موسى. يا ليتني فيها جذعا. ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أومخرجيَّ هم؟ قال نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا”. (3)

لنتوقف لحظات أخرى نتأمل فيها موقف هذه السيدة العظيمة في تاريخ الإسلام والإنسانية. كان يمكن لامرأة أخرى أن تشك بزوجها وتهينه وتسفه قوله. وكان يمكن أن تسخر منه في سرها حتى لو خافت إبداء رأيها صراحة في وجهه. وكان يمكن ألا تعبأ بما قال، وتنصرف لخاصة أمرها وأمر أهلها.

لكن هذه السيدة التي كانت أول إنسان يقبل الإسلام  ويؤمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن إيمان طوعي حر، اتخذت الموقف الصحيح المبني على دراية عميقة بشخصية الرسول الموحى اليه. إنها تعرفه جيدا وهي أفضل من يستطيع الحكم عليه. وقد دونت موقفها أمامه وأمام التاريخ، فهي لم تؤمن به لأنه زوجها ووالد أطفالها، ولكن لأن نزول الوحي عليه كان موافقا في رأيها لما لمسته فيه من خصال نبيلة كريمة هي من صميم خصال الأنبياء: البر بأهله وأقاربه، ومساعدة الضعفاء والمحتاجين، والفقراء والمظلومين، وإكرام الضيف، ونصرة القضايا العادلة.

لم تكتف خديجة رضي الله عنها باتخاذ هذا الموقف الرائع النبيل، وإنما اتجهت مع زوجها الى شيخ كبير وعالم بارز يقرأ كتب الأديان ويكتب بالعربية والعبراينة، شيخ اعتنق المسيحية، وهو رجل تربطه بها قرابة عائلية. أرادت أن تطمئن بسؤال عالم تثق به، وأرادت أن يطمئن زوجها الموحى اليه، إذ لا شك أبدا أنها صدقت النبي صلى الله عليه وسلم من أول وهلة. وبالفعل، جاءها الجواب الذي توقعته من عالم مطلع يدين بدين عيسى المسيح عليه السلام.

وهذه أيضا قصة جميلة تؤكد الرابطة القوية الوثيقة بين آل إبراهيم كافة، وبين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام بوجه خاص. إن العالم النصراني لم يجحد بعلمه على نبي الإسلام ولم يحسده على الكرامة العظمى التي جاءته، وإنما طمأنه الى أنه هو النبي فعلا، وأن الملاك الذي جاءه هو نفسه الملاك الذي كان يأتي موسى عليه السلام. وزاد العالم النصراني المخلص بتعهد صادق من عنده، أنه سينصر النبي نصرا قويا لا تردد فيه عندما يتعرض للظلم والأذى من قومه. ومع أن ورقة بن نوفل لم يعش كثيرا بعد هذه الحادثة، لكن كلماته بقيت محفورة في ذاكرة المسلمين وذاكرة التاريخ.

لسان حال كل مسلم يقرأ عن خديجة بنت خويلد أم المؤمنين هو الإمتنان المطلق الدائم لها على فضلها العظيم الكبير في تاريخ الإسلام.

ولسان حال كل مسلم يقرأ عن موقف ورقة بن نوفل هو التقدير العميق لعالم ورجل مسيحي صادق شهد بالحق في اللحظات الحاسمة الأولى من تاريخ الإسلام، وتعهد بمناصرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

 

إعلان الرسالة.. وعرض بالملك والسيادة

 

اطمأن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه من الوحي وقبل التكليف الجليل من ربه. كانت خديجة هي أول إنسان دخل في دين الإسلام، ولحكمة من الله كان أول مسلم بعد النبي امرأة، بما ينسجم مع طبيعة الرسالة الإسلامية التي خاطبت الرجال والنساء معا ودافعت بقوة عن كرامة المرأة.

كان علي بن أبي طالب الذي كفله النبي بعد زواجه من خديجة صبيا متحفزا للحياة. وقد سمع الحديث عن الإسلام في بيت النبوة فاعتنقه. ولم يبخل علي على الإسلام وعلى النبي بشيء طيلة حياته، وهو أصبح لاحقا الخليفة الرابع في تاريخ المسلمين.

ثم أسلم زيد بن حارثة، وكان يعيش في بيت النبوة أيضا منذ عدة سنوات. كان عبدا فحرره النبي وتبناه. ويوما ما جاء والده حارثة الى مكة والتقى ابنه بعد غياب طويل. عندها أعطى النبي لزيد حرية الإختيار، بين أن يبقى معه أو أن يرحل مع والده. فاختار زيد البقاء مع النبي، ولما نزل الوحي أسلم وناصر النبي. ولاشك أن زيدا ما كان ليختار البقاء مع محمد صلى الله عليه وسلم ويفضله على أبيه إلا لأنه وجد فيه من العطف والحنان والمحبة والرعاية والخلق الكريم ما لم يجده عند أي شخص آخر.

ثم أسلم صديق النبي المشهور أبو بكر الصديق. وهذا رجل صاحب شأن عظيم في تاريخ الإسلام وأول خليفة للمسلمين بعد وفاة النبي، قال فيه المؤرخون: “كان أبو بكر رجلا مألفا لقومه، محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر. وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف. وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو الى الله والى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس اليه.” (4)

وبالفعل، أقنع أبو بكر الصديق عددا من الأسماء المشهورة الأخرى في تاريخ الإسلام بدخول الدين الجديد، منهم عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله. أبو بكر هنا يقدم المثال والقدوة للتاجر الذي لا يتحول عبدا لماله ومصالحه الضيقة.

ركز النبي صلى الله عليه وسلم على الإتصال الفردي بالناس، وساعده في ذلك المسلمون الجدد الذين سبقوا باتباع الرسالة الإسلامية. واستمر النبي على هذا النهج قرابة ثلاث سنين، حتى شاع ذكره وذكر دينه في أوساط قريش وخارج حدود مكة.

كانت خلاصة دعوته للناس هي أن يكفوا عن عبادة الأصنام ويتوقفوا عن تقديسها وتعظيمها والإعتقاد بأنها تنفع وتضر أو أنها واسطة بينهم وبين الله وعز وجل، وأن يؤمنوا بدلا من ذلك بالله سبحانه وتعالى وحده ربا لا شريك له، وأن يعبدوه ويطيعوه ويدعوه في السراء والضراء ولا يشركوا بعبادته أحدا، صنما كان أو بشرا، وأن يؤمنوا بالبعث بعد الموت، وباليوم الآخر، ويستعدوا ليوم القيامة بالإيمان الصحيح والعمل الصالح ومكارم الأخلاق.

بعد ثلاث سنوات من نزول الوحي، أمر الله تعالى رسوله محمدا بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بإعلان دعوته بين عموم الناس: “فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين. إنا كفيناك المستهزئين. الذين يجعلون مع الله إلها آخر، فسوف يعلمون. ولقد نعلم أنه يضيق صدرك بما يقولون. فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين. واعبد ربك حتى يأتيك اليقين”. (الحجر: 94-99)

صدر الأمر بالجهر بدعوة الإسلام، فاستجاب النبي لأمر الله واستجاب معه أصحابه، وبدأت حملة علنية لبيان حقيقة الدين الجديد لسكان مكة. لكن زعماء المشركين في قريش لم يرحبوا بهذه الدعوة التي تدين عبادتهم للأصنام وتدعوهم لعبادة الله وحده وطاعته والعمل بهديه.

بالنسبة إليهم، كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ثورة على الأوضاع الإجتماعية السائدة والتقاليد القديمة والمفاهيم والأفكار الموروثة عن الآباء والأجداد من قديم الزمان. ولاشك أن الدعوة الجديدة كانت حدثا ضخما في حياتهم، ولاشك أنهم فكروا في هذا الحدث وتأملوا في مغزاه، لكنهم فضلوا في النهاية أن يحافظوا على القديم الذي عندهم، وخافوا من ممارسة النقد والإجتهاد والتجديد، ومن أن يتبعوا دينا يهدد بتغيير الأسس الفاسدة لحياتهم ولمجتمعهم.

اختارت الأغلبية من قريش أن تسلك ذات الدرب الذي سلكه خصوم الرسل في تاريخ الإنسانية، أولئك الذين أعلنوا الحرب في حقب تاريخية سابقة على نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وإخوانهم من الأنبياء عليهم السلام. لذلك رفضوا تصديق النبي رغم أنه كان الصادق الأمين عندهم قبل البعثة، وقالوا عنه إنه ساحر وكاذب ومجنون وشاعر. وسلطوا عليه وعلى أتباعه الكثير من الظلم والحصار والأذى. وفي تلك الظروف الصعبة، اختار أبو طالب أن يقف سندا وحاميا لابن أخيه، رغم أنه لم يعتنق دعوته.

كان موقف أبي طالب موقفا نبيلا ومؤثرا وعظيما في تاريخ الإسلام. وعندما اشتدت الخصومة بين زعماء المشركين والنبي، جاء وفد من أعيان قريش الى أبي طالب وقالوا له: “يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين”. (5)

كان المشركون يرفضون دعوة الإسلام على أساس أنهم لا يريدون مخالفة ما كان عليه آباؤهم وأجدادهم. ولو أن هذا المنطق اعتمد في كل وقت لما تجددت الحياة البشرية أصلا، ولما كان هناك دور في التاريخ للأنبياء وكبار القادة والمفكرين والعلماء والأدباء والمبدعين. وكان رد النبي على قومه هو رفض هذه الحجة رفضا قاطعا ودعوة القرشيين لاتخاذ موقف حر متجرد غير مرتهن لثقافات الماضي وعقائده. لذلك قالوا لأبي طالب إن ابن أخاه شتم آباءهم وسفه أحلامهم. أما ما أشاروا اليه من عيب آلهتهم فيعنون به رفض الإسلام لعبادة الأصنام التي كانوا يصنعونها بأيديهم.

اشتد الضغط على أبي طالب، ولاشك أنه أدرك جدية التهديد الذي جاء به وفد قريش، التهديد الموجه له ولابن أخيه، ولبني هاشم قاطبة. فدعا محمدا صلى الله عليه وسلم وحدثه بالأمر، وطلب منه أن يجنح للسلامة وأن يبقى على نفسه وعمه، وألا يحمل عمه ما لا يطيق. وجاء جواب النبي قاطعا: “يا عم: والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته”. (6)

أيقن أبو طالب أن معدن ابن أخيه هو معدن الرسل الذين نزل عليهم الوحي من قبل، من جهة التصميم والعزم والثبات على المبدأ والإستعداد الكامل للتضحية في سبيل ما يرضي الله، وفي سبيل نشر الإيمان الصحيح وقيم الحرية والمساواة والعدالة ومكارم الأخلاق. لذلك قال للنبي صلى الله عليه وسلم: “اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت. فوالله لا أسلمك لشيء أبدا”. (7)

ازداد الضغط على النبي وأصحابه، من دون أن تحرز قريش نجاحا كبيرا يذكر. وفي يوم من الأيام، تجرأ أبو الحكم بن هشام على النبي وسبه سبا فاحشا.

شهدت امرأة ذلك الموقف وتألمت له، وفي طريق عودتها، مر بها فارس من أشهر فرسان قريش عائدا من رحلة قنص، فحدثته بما جرى. لم يكن الفارس مسلما حتى تلك اللحظة، لكنه كان عما لمحمد صلى الله عليه وسلم. كان اسمه حمزة بن عبد المطلب، وسينال في التاريخ الإسلامي لقبا لا نظير له: سيد الشهداء.

اشتد الغضب بحمزة فتوجه الى الكعبة مباشرة. وهناك لقي أبا الحكم بن هشام فوبخه ورفع قوسه فجرحه بها. ولأبي الحكم بن هشام لقب مشهور في التاريخ الإسلامي هو أبو جهل، كناية لتعصبه الشديد ورفضه أن يدرس العقيدة الجديدة دراسة موضوعية على أساس الحجة والدليل، وتزعمه حملة القمع والإرهاب التي سلطت على المسلمين. أعلن حمزة لأبي جهل وللحاضرين أنه قد غدا على دين محمد، فنزل عليهم الخبر نزول الصاعقة. فكر بعض الحاضرين في الرد عليه ومصادمته، لكن أبا جهل صدهم معترفا بأنه سب النبي سبا قبيحا. وأقبل حمزة من الغد على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم معلنا إسلامه، فكان ذلك كسبا كبيرا للصف المؤمن، ونكسة مدوية لحزب المشركين الطغاة.

اجتمع عدد من الزعماء المرموقين لهذا الحزب الكاره لدعوة النبي عند الكعبة وتبنوا خطة جديدة. قرروا توجيه دعوة للنبي ليتفاوضوا معه فجاءهم على حرص وأمل، يتطلع الى أن يقبلوا منه دعوة الإسلام ولا يكونوا عقبة في طريق التوحيد والإيمان الصحيح.

قالوا له: “يا محمد، إنا قد بعثنا اليك لنكلمك. وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب  أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك. لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة. فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك. فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا. وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا، فنحن نسودك علينا. وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا. وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك ـ وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا ـ فربما كان ذلك، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى تبرئك منه أو نعذر فيك”. (8)

هكذا تحدث خصوم النبي ذات يوم في مكة المكرمة. وقد بقيت قلة متطرفة من الخصوم الآخرين له ولدعوة الإسلام على مدى التاريخ يزعمون أن محمدا بن عبد الله لم يكن نبيا وأنه كان طالب ملك ومجد وسيادة.

يا لسخافة هذا القول: ها هو الملك يعرض على محمد من زعماء قومه. الملك والشرف والمال والسيادة. لو كان هذا قصده، لما كانت أمامه فرصة أفضل من هذه، ولا عرض أحسن من هذا العرض الذي سمعه من أشراف مكة. فماذا كان الجواب؟

قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما بي ما تقولون. ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم. ولكن الله بعثني اليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا. فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم. فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي اصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم”. (9)

هذا جواب نبي مرسل لا جواب طالب ملك ومجد ومال. إن الخطة التي أعدت لرشوته كيف يتخلى عن أداء الرسالة لم تنجح، وقد غدت قريش أكثر توترا وأكثر غضبا على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. زاد التضييق على المؤمنين، وضرب أحدهم، عبد الله بن مسعود، لأنه قرأ آيات من القرآن علنا في ناد من نوادي مكة. كانوا يريدون لكلمة الله أن تبقى حبيسة محجوبة عن الناس، وهم كانوا أعلم أهل الأرض باللغة العربية وفنونها، وكانوا واثقين أن القرآن الذي يريدون حجبه عن الناس لون جديد من البيان لم يعرفوا مثله من قبل قط ولا يمكن أن يكون من قول بشر. لذلك تآمروا على حرية التعبير وحرية الإعتقاد بكل وسائل البطش المتاحة لهم.

ولما لم تنفعهم أساليبهم هذه، صعدوا الموقف وقرروا اللجوء الى التعذيب.

 

امرأة شهيدة، ورجل أسود حر.. وهجرة اضطرارية

 

إذا كان أول من آمن بالإسلام امرأة، فإن أول من استشهد في سبيل الإسلام امرأة أيضا.

تبنت قبائل قريش سياسة التعذيب المنظم ضد المؤمنين، وفرضت عليهم الجوع والعطش. ووقع الأذى الأكبر على الفقراء والأرقاء من المسلمين. أراد وجوه قبيلة بني مخزوم أن يظهروا حماسهم الزائد لحملة التعذيب فاستهدفوا عائلة كاملة اختارت الإسلام عن حرية واقتناع. أخرجوا ياسر، وزوجته سمية، وابنهما عمار، الى رمال الصحراء المحرقة بعد منتصف النهار بقليل، عندما يكون لهيب الشمس في صحراء العرب أقوى منه في أي وقت آخر خلال اليوم. وهناك تداول الطغاة على ضرب المؤمنين لإجبارهم على التخلي عن عقيدتهم والعودة الى عبادة الأصنام.

مر النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم بآل ياسر وهم بين أيدي جلاديهم، فما كان عنده من تأييد لهم إلا قوله المشهور: صبرا آل ياسر.. موعدكم الجنة. إن مشهد قمع المؤمنين يتكرر في فترات كثيرة من التاريخ: كذلك فعل فرعون بالشعب اليهودي من قبل، وكذلك فعل الكثير من الطغاة بالمسيحيين. وها هم المتسلطون المتعصبون من زعماء مكة ينهجون ذات النهج الفاسد في مواجهة الإيمان، وفي مواجهة الإرادة الحرة للإنسان.

وقف أحد المعذبين على رأس المرأة المؤمنة الحرة يخيرها بين مزيد من التعذيب وبين أن ترتد عن الإسلام وتمدح الأصنام، فنظرت اليه بثقة وشموخ، وردت عليه بالرفض. لقد رفضت هذا العرض من قبل، وأكدت موقفها من جديد بلهجة لا تحتمل الشك. ثار الجلاد واستشاط غضبا وهو يرى عجز قوته الباطشة عن إثناء هذه المرأة النبيلة عن محبة الله والإيمان به، فما كان منه إلا أن رفع سلاحه ووجه لها طعنة قاتلة.

وكتب التاريخ آنذاك اسم أول شهيدة من شهداء الإسلام: سمية زوجة ياسر، وأم عمار بن ياسر. وقد خلد التاريخ اسمها رمزا للإيمان والدفاع عن حرية العقيدة، ورمزا للإرتباط الوثيق بين المرأة والشريعة الجديدة التي أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم. ارتباط المرأة الحرة في كل مكان وزمان بشريعة الحرية والكرامة الإنسانية.

 وغير بعيد من الموقع الذي استشهدت فيه سمية، كان جلاد آخر من جلادي قريش يتفنن في تعذيب مؤمن آخر من أنصار محمد صلى الله عليه وسلم. اسم الجلاد أمية بن وهب، واسم المؤمن بلال بن رباح.

 بلال رجل أسود. من الرجال والنساء الذين لبى الإسلام أشواقهم الى المساواة والحرية، إذ لا فرق في الإسلام بين أبيض ولا أسود إلا بالتقوى، أي بمحبة الله وطاعته وبالعمل الصالح، كما جاء في القرآن الكريم: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليم خبير”. (سورة الحجرات: 13)

وقد جاء في القرآن الكريم أيضا أن كرامة الإنسان عطاء الهي ثابت للإنسان بقطع النظر عن لونه وعرقه ودينه: “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا”. (الإسراء: 70)

فهم بلال بن رباح رسالة الإسلام الواضحة التي لا تعقيد فيها، وعرف أن تكريم الله لبني آدم يشمله ويشمل كل إنسان على وجه الأرض، وأدرك أن كل الذين ينتقصون من حقوق الإنسان بسبب اللون عنصريون ضالون معادون لشريعة الله. لماذا إذن يستمر مؤمنا بديانة قريش التي لا يقبلها العقل السليم والتي تجيز اضطهاده واستعباده؟

أراد طغاة قريش أن يجعلوا من بلال عبرة لكل عبد أسود، ولكل رجل أسود، ولكل امرأة سوداء في مكة، وأرادوا أن يغلقوا أمامهم باب الحرية الذي فتحه الإسلام على مصراعيه. هذا ما فعلوه ببلال: “كان أمية بن وهب يخرجه إذا حميت الظهيرة في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى. فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد”. (10)

الله واحد أحد، ليس له شريك ولا ند. هذا هو جواب بلال للجلاد. والجلاد الذي أعمى التعصب قلبه وعقله يريد أن يرده بالقوة والتعذيب الى الإعتقاد باللات والعزى وتقديس بقية أصنام قريش. لكن بلالا ثبت وصمد ولم يستسلم أبدا، حتى نجح أبو بكر الصديق في افتدائه وتحريره.

بعد عشرين عاما من تلك الواقعة، وصل جيش الإسلام بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم الى مكة محررا، وهدمت الأصنام التي كانت موجودة داخل الكعبة وحولها، وأمر النبي برفع الأذان، وإعلان النداء للصلاة في المسجد المطهر. وكان المؤذن الذي صعد فوق الكعبة ونال شرف ترديد أول أذان في عصر الحرية هو ذات الشخص الذي عذبه أمية بن وهب في صحراء مكة ذات يوم من الأيام. كان بلال مؤذنا للصلاة في المدينة المنورة أيضا، وقد حفظ له التاريخ موقفه الرائع في الدفاع عن حرية العبادة، والتمسك بالإسلام، وسمي بين المسلمين بمؤذن الرسول، وبقي على مدى الزمان رمزا للإنسان الحر، مهما كان لونه. وإذا كان هناك من يود أن يفهم سر جاذبية الإسلام للرجل الأسود وللمرأة السوداء على مدى التاريخ، وعلى مدى القرون المقبلة، فإن قصة بلال واحدة من القصص التي تكشف السر.

عذبت قريش أعدادا كبيرة من المسلمين والمسلمات وأصرت على مصادرة حريتهم في العقيدة والتعبير. ولم يستطع النبي صلى الله عليه وسلم أن يضع حدا لهذه المعاناة التي يواجهها أتباعه. صحيح أنه هو نفسه استمر محميا من عمه أبي طالب وعدد من أقاربه الآخرين، ولكنه وصل إلى قناعة مفادها أن من الضروري إيجاد حل ينجي المسلمين الأوائل من التعذيب والإبادة.

من يا ترى يستطيع نجدة المسلمين في محنتهم الشديدة هذه؟ فكر النبي مليا، وألهمه ربه عز وجل حلا يرمز الى أمور عظيمة في تاريخ العلاقات المسيحية الإسلامية. أبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالحل: “لو خرجتم الى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق، حتى يجعل لكم فرجا”. (11) 

كانت تلك إشارة الإنطلاق للهجرة الأولى في تاريخ الإسلام، ولواحدة من أشهر قصص اللجوء السياسي في التاريخ. غادر العشرات من المسلمين مكة متجهين الى الحبشة، وهي أثيوبيا حاليا. كانوا رجالا ونساء وأطفالا، ومن بينهم جعفر بن أبي طالب ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وعثمان بن عفان وزوجته رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان فيهم عدد آخر من كبار الصحابة.

“الصحابي” هو اللقب الذي يطلق على كل مسلم رأى الرسول وعاصره وآمن بدعوته.  والصحابة هم الجيل الإسلامي الأول الذي نصر النبي صلى الله عليه وسلم وآزره في نشر رسالة الإسلام بين الناس، وبيان أركانها وتعاليمها، وغرس قيمها الكبرى وعلى رأسها التوحيد والحرية والمساواة والعدالة ومكارم الأخلاق في قلوب البشر وعقولهم.

ومن الأسماء المشهورة التي هاجرت الى الحبشة أيضا مصعب بن عمير، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف. وكان مجموع المهاجرين من الرجال والنساء والأطفال أقل من المائتين.

وصل اللاجئون المسلمون الى الحبشة فوجدوا فيها حسن الإستقبال والأمن وحرية العبادة. وهذا هو تحديدا ما كانوا يطلبونه. وصفت لهم الأيام بعد ما نالهم من ظلم وتعذيب في مكة، فانصرفوا لحياتهم يعبدون الله ويعملون لكسب الرزق وإعاشة أنفسهم. لكن الطغاة من زعماء قريش، على نهج الطغاة قبلهم وبعدهم، أرادوا مطاردة المسلمين حتى في منفاهم. لقد منعوا عنهم حرية العبادة في مكة، ثم قرروا أن يسعوا لمصادرة حرياتهم الدينية في الحبشة أيضا، وأن يطلبوا من حاكمها تسليم المسلمين اليهم على أساس أنهم مطلبون للسلطات القرشية.

ولكن كيف يستطيعون إقناع الملك المسيحي الأثيوبي الذي مدحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال إنه لا يظلم عنده أحد؟

قرروا أن يرسلوا اثنين من الزعماء الدهاة ذوي المهارة الديبلوماسية العالية لتنفيذ هذه المهمة الحساسة، وأمدوهما بمال كثير للصرف على هذه المهمة. وسافر الوفد محملا بالكثير من الهدايا الثمينة. ادخروا أفضل هداياهم للحاكم، لكنهم بدأوا أولا بكبار مساعديه ومستشاريه وأغدقوا عليهم بقية الهدايا، مقابل أمر واحد. قالوا لهم إنهم جاؤوا يطلبون تسليم اللاجئين المسلمين اليهم، وهم يريدون من هؤلاء المساعدين والمستشارين أن يؤيدوا الطلب إذا عرض على الحاكم في مجلسه الرسمي. وحصلوا من الجميع على وعود قوية بالتأييد والدعم لهذا الطلب.

استقبل الملك الأثيوبي وفد قريش وسمع منهم تقريرا حافلا بالإتهامات ضد اللاجئين المسلمين، وعلى رأسها أن هؤلاء تخلوا عن دينهم من دون أن يدخلوا في النصرانية. أراد الوفد أن يستغل العاطفة الدينية المسيحية للملك ويؤلبه على اللاجئين المسلمين، وأعطاه الإنطباع أن قريشا ما كانت لتمانع لو أن هؤلاء اللاجئين اعتنقوا المسيحية. ثم أضاف أن زعماء مكة يطلبون استعادة المسلمين الذين هاجروا الى الحبشة لأنهم أدرى بالأسلوب الأمثل للتصرف معهم. وقد عرفنا جيدا حقيقة هذا الأسلوب الذي يعنيه الوفد القرشي: إنه أسلوب التعذيب والقمع والقتل. ثم تحدث عدد من المساعدين والمستشارين فأيدوا مطلب قريش، تصديقا لوعودهم التي قدموها للوفد الزائر عندما تسلموا منه الهدايا الثمينة.

لكن الملك رفض أن يتخذ قراره بناء على وجهة نظر الوفد القرشي المشرك وحدها. كما أنه لم يستجب لدواعي التعصب الديني التي راهن عليها وفد قريش. واعتذر للضيوف بأنه لا يستطيع أن يسلمهم لاجئين اختاروا طلب الأمن والحرية في بلاده من دون أن يسمع منهم مباشرة، ويعطيهم الفرصة للرد على الإتهامات التي كالها لهم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة. وهذان هما الرجلان اللذان أرسلتهما قريش الى الملك الأثيوبي.

تسلم اللاجئون المسلمون دعوة السلطات الأثيوبية للحضور الى مجلس الملك والرد على الإتهامات الموجهة إليهم. وعرفوا أن الملك سيسلمهم الى الوفد القرشي الرسمي إذا ثبتت عليهم التهم. فتشاوروا واتفقوا أن يعرضوا عليه حقيقة أمرهم دون زيادة أو نقصان، ويتحملوا تبعات مبادئهم مهما كانت مؤلمة.

فتحت الجلسة الحاسمة من طرف الملك الاثيوبي، وقد مضى مباشرة الى صلب الموضوع، وسأل المسلمين عن دينهم الجديد المخالف لدين قريش، والمخالف لدين الملك أيضا، أي للديانة المسيحية.

في ذلك اليوم، في قصر الحاكم الاثيوبي، في العقد الثاني من القرن السادس الميلادي، سمع الحاضرون وسمعت الدنيا كلها، جيلا من بعد جيل، واحدة من أفضل المرافعات عن الإسلام في التاريخ، وأكثرها قوة ووضوحا وتأثيرا على العقول وعلى القلوب.

 

محاكمة عادلة في أثيوبيا

 

قال جعفر بن أبي طالب، يخاطب ملك أثيوبيا، ويخاطب الدنيا بأسرها:

“أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك، حتى بعث الله الينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا الى الله، لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان. وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات.

وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا. وأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصيام. فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله. فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا. فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا الى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل من الخبائث. فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالو بيننا وبين ديننا، خرجنا الى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك”. (12)

أي قاض عادل يسمع مثل هذه المرافعة العظيمة المفعمة بالصدق والوضوح ونبل المعاني ثم لا ينصف أهلها؟ ملك الحبشة الذي استمع الى جعفر ابن أبي طالب باهتمام، لم يكن ممثلا للسلطة القضائية فحسب، وإنما كان رأس السلطة التنفيذية أيضا، وأمره ينفذ دون تردد. وقد سبق أن ظهرت نزعته للعدل عندما رفض أن يحكم على اللاجئين المسلمين قبل أن يسمع منهم. وها هو يوجه اليهم سؤالا آخر بعد أن سمع مقالتهم الأولى: هل عندكم شيء من القرآن الذي أنزله الله على نبيكم؟

أجاب جعفر: نعم عندنا. فطلب الملك أن يسمع. فقرأ جعفر ابن أبي طالب آيات كريمة من صدر من سورة مريم:

“كهيعص. ذكر رحمة ربك عبده زكريا. إذ نادى ربه نداء خفيا. قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا، ولم أكن بدعائك رب شقيا. وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا: فهب لي من لدنك وليا. يرثني ويرث من آل يعقوب. واجعله رب رضيا. يا زكريا: إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى، لم نجعل له من قبل سميا. قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امراتي عاقرا، وقد بلغت من الكبر عتيا. قال كذلك قال ربك، هو علي هين، وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا”. (مريم: 1-9)

ما كان أن قرأ جعفر هذه الآيات الكريمة حتى تجلت الحقيقة للملك المسيحي العادل. إن  صاحب القلب السليم إذا سمع كلام الله فرح به وخشع له واطمأنت نفسه. وقد خشع الملك الحبشي لما سمع إلى درجة أنه لم يستطع أن يحبس دمعه. بكى النجاشي حتى بلل الدمع لحيته، وبكى الأساقفة من حوله. ثم أصدر الملك حكمه العادل: إن هذا، (يعني القرآن) والذي جاء به عيسى، ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا (الحديث هنا موجه لعمرو بن العاص وصاحبه، ممثلي قريش) فلا والله، لا أسلمهم اليكما”. (13)

إن عظمة هذا الملك النصراني العادل لا تتوقف عند إنصافه للمسلمين، وعند خشوعه لكلمات الله عندما تليت عليه من القرآن الكريم، وإنما تكمن أيضا في تمسكه بموقفه وعدله حتى عندما تآمر وفد قريش من جديد وروجوا بحق المسلمين فرية كبيرة واتهاما خطيرا، وزعم أنهم يسيؤون لشخص عيسى عليه السلام.

قال عمرو بن العاص وصاحبه للنجاشي أن المسلمين يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، ويزعمون أنه عبد مثل سائر الناس. وعاد المسلمون مجددا الى مجلس الملك يحاصرهم اتهام يتصل بعقيدة الملك الذي لجؤوا له يطلبون الأمان والحرية.

أدلى جعفر بن أبي طالب بالجواب الصحيح عند المسلمين دون زيادة أو نقصان: هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها الى مريم العذراء البتول. والراجح أنه استلهم جوابه مما جاء في سورة مريم التي قرأها بالأمس عن هذا الموضوع، وبالتحيدد في هذه الآيات الكريمة:

“وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً. فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً. قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً. قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً. قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً. قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً. فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً. فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً. فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً. يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً. فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً. قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً. وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً. وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً. وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً. ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ“. (مريم: 16-35)

بالنسبة للذين يقرأون هذه الآيات الكريمة باللغة العربية، فإن من المستحيل على الأغلبية الساحقة منهم ألا يأسرهم جمالها وإيقاعها وسجعها، بالإضافة طبعا الى وضوح المضمون والقدرة المعجزة على رواية قصة طويلة في فقرة صغيرة من 209 كلمة. وبالنسبة للذين يقرأونها مترجمة الى الانجليزية والفرنسية، والى أي لغة أخرى قد يطبع بها هذا الكتاب، فإن أغلب الظن أيضا أنهم سيصلون الى ما وصل اليه ملك الحبشة عندما قرأت عليه قبل حوالي أربعة عشر قرنا من الزمان.

لقد أنصت الى الآيات مترجمة، ثم أخذ من الأرض عودا صغيرا وضعه في يده، وأجاب بكلمات مضيئة أخرى في تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية، متوجها بالحديث الى جعفر: “والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود”. (14) أي أن التصور الذي جاء في القرآن الكريم عن عيسى بن مريم لا يختلف عن التصور المسيحي الذي يؤمن به الملك إلا بحجم عود ثقاب أو أقل.

أصدر الملك بعد ذلك حكمه النهائي في القضية المرفوعة أمامه، فرفض طلب وفد قريش باسترداد اللاجئين المسلمين، ورد اليهم هداياهم التي جاؤوا بها، مبينا أنه لن يقبل الرشوة منهم. ثم جدد ترحيبه بالمسلمين، وأخبرهم أنهم آمنون في بلاده، وأكد لهم أن من عاداهم فقد عاداه هو شخصيا، وأنه لن يقبل أن يمسهم إنسان باذى مهما كان الثمن، في إشارة لرشاوى عمرو بن العاص، حتى لو بلغ ذلك عرض جبل من ذهب على الملك!!

قالت الصحابية الجليلة أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، وكانت ضمن وفد اللاجئين المسلمين الذين حضروا هذه الجلسات في قصر الملك الأثيوبي، وهي ستصبح بعد هذا الموقف بسنوات زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم وأما للمؤمنين، قالت تلخص ما آل اليه أمر هذه المحاكمة، بالنسبة لمبعوثي قريش من جهة، والى اللاجئين المسلمين من جهة أخرى: “فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به. وأقمنا عنده بخير دار، مع خير جار”. (15)

يا لروعة الترابط والتضامن بين المسلمين والمسيحيين، وبين آل إبراهيم كافة، حين تصفو القلوب ويغيب التعصب.

 

(1) ـ صحيح البخاري. طبع بمطبعة دار إحياء الكتب العربية. بدون تاريخ. ص 6-7. وفي هذه الرواية تذكر الآيات الأولى من الوحي حتى قول الله تعالى: اقرأ وربك الأكرم. لكنها تامة في الروايات الأخرى بما في ذلك الرواية الواردة في سيرة ابن هشام، في الصفحة 221

(2) ـ سيرة ابن هشام. مصدر سابق. ص 221. وقد حذفنا من النص عبارة “قال” المكررة أكثر من مرة، واكتفينا بإيرادها مرة واحدة في بداية الإستشهاد.

(3) ـ صحيح البخاري. مصدر سابق. ص 7

(4) ـ سيرة ابن هشام، مصدر سابق. ص 232

(5) ـ سيرة ابن هشام، مصدر سابق. ص 240

(6) ـ نفس المصدر. ص 240

(7) ـ نفس المصدر. ص 240

(8) ـ نفس المصدر. ص 262

(9) ـ نفس المصدر. ص 262-263

(10) ـ سيرة ابن هشام. مصدر سابق. ص 277.

(11) ـ المصدر السابق. ص 280

(12) ـ سيرة ابن هشام. مصدر سابق. ص 290

(13) ـ المصدر السابق. ص 290

(14) سيرة ابن هشام. مصدر سابق. ص 291

(15)  ـ المصدر السابق. ص 291

 

معلومات عنّا Dr. Hechmi Hamdi

Mohamed Elhachmi Hamdi (Ph.D), SOAS graduate (University of London), Leader of Tayyar Al Mahabba Party in Tunisia and fourth placed presidential candidate in the 2014 elections; author of “the Politicisation of Islam” (Colorado: Westview Press, 1988); “The Making of an Islamic Political Leader” (Colorado: Westview Press, 1988); “Muhammad for the Global Village” (Riyadh: Maktaba Dar-us-Salam, 2008). Email: info@alhachimi.org

0 comments on “الفصل الثاني من كتاب الدكتور محمد الهاشمي الحامدي: السيرة النبوية للقرية العالمية ـ طبع أول مرة عام 1996

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: