عنوان هذا الفصل: حجة الوداع
في العام العاشر للهجرة، أعلن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينوي الحج، وتجهز له، وأمر الناس أن يتجهزوا له. وجاء آلاف الناس إلى عاصمة الدولة الإسلامية يتسابقون إلى نيل شرف الحج تحت قيادة رسول الله إلى الإنسانية قاطبة. وفي الأسبوع الأخير من ذي القعدة تحرك موكب المؤمنين من المدينة المنورة، يقصد مكة المكرمة، وقد استغرقت الرحلة قريبا من تسعة أيام.
أحرم النبي صلى الله عليه وسلم بنية الحج والعمرة من وادي ذي الحليفة، ولبس ثوبي الإحرام الأبيضين البسيطين الذين يلبسهما كل الحجاج والمعتمرين، في مظهر يرمز للمساواة بين البشر قاطبة، ولتواضع العبد الضعيف أمام ربه وخالقه، و لتجرده للعبادة، وإدراكه لحقيقة الدنيا وأنها لا تعني شيئا من دون الإيمان بالله واليوم والآخر.
في صباح اليوم الرابع من شهر ذي الحجة من العام العاشر للهجرة، دخل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام، فطاف بالكعبة المشرفة، وسعى بين الصفا والمروة، وأقام بعد ذلك في موضع بأعلى مكة يسمى الحجون إلى اليوم الثامن من الشهر.
يسمى اليوم الثامن يوم التروية، وفيه توجه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه بقية الحجاج إلى منى. هناك صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، وأقام إلى فجر اليوم التاسع.
حتى إذا طلعت الشمس ذاك اليوم المبارك، التاسع من ذي الحجة، نفر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جميع الحجاج إلى جبل عرفة، وقضوا اليوم كله في ذكر الله وعبادته والتضرع إليه بالدعاء. كما اهتم النبي صلى الله عليه وسلم أيضا بتعليم المسلمين مناسك الحج وشرائع دينهم. وكان معه من الحجاج يومئذ ما يقرب من أربعين ومائة ألف شخص.
الخطبة الشهيرة يوم عرفة
بعد زوال شمس ذلك اليوم العظيم من أيام الحج، ركب النبي صلى الله عليه وسلم ناقته وخطب في الناس خطبة جامعة ذكرهم فيها بأصول الإسلام، وشدد فيها على تحريم الظلم والقتل والإعتداء على أموال الناس، وحث على أداء الأمانة، وترك الربا، والحذر من كيد الشيطان، وأوصى بالنساء خيرا، وأمر بالإعتصام بكتاب الله، وبالوفاء بحقوق الإخوة الإسلامية.
بدأ النبي صلى الله عليه وسلم خطبته بتنبيه الناس إلى أن وقوفه بينهم في مثل هذا اليوم العظيم قد لا يتكرر: “أيها الناس: اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا”. (1) وهذا القول أيضا مما يضاف إلى دلائل صدق نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه مات بعد شهور قليلة من القائه لهذه الخطبة العظيمة.
ثم وجه النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرا شديدا من الإعتداء على الأنفس أو الأموال وأمرهم بأداء الأمانة إلى أهلها، وقال لعشرات الألوف من المسلمين الذين نالوا شرف الحج معه، ولعموم المسلمين والإنسانية جمعاء في كل زمان ومكان:
“إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلتقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا. وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت. فمن كان عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها”.
بعد ذلك انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيان حرمة الربا في الإسلام، ودعوة المسلمين إلى التخلي عن ثارات الجاهلية وتعظيم قيمة النفس الإنسانية، مقدما المثال بـمـن هم أقرب الناس إليه:
“إن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون. قضا الله أنه لا ربا. وإن ربا العباس بن عبد المطلب (عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من تطبيق تعاليم الإسلام على الأقربين قبل الأبعدين) موضوع كله. وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع (يقصد وقف الثارات المتوارثة من عهد الجاهلية وحقن دماء الناس)، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب (ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، كان مسترضعا في بني ليث، فقتله ناس من قبيلة هذيل)، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.”
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من كان حاضرا من المؤمنين، وكل مؤمن على مدى الأزمان، بأن الشيطان للإنسان عدو مبين:
“أيها الناس: فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم”.
ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم للناس أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم. وفي تعاليم الإسلام أن هذه الأشهر لا يجوز فيها ظلم ولا بغي ولا قتال، إلا أن يكون القتال ردا لعدوان، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب الذي يكون بين جمادى الثانية وشعبان. ثم أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرا، وبين للناس ما يعصمهم من الضلال والإنحراف بعده فقال:
“فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بَـيّـنا، كتاب الله وسنة نبيه”. (2)
كتاب الله: هذا هو كنز المؤمن في كل عصر، ومصدر الهدى لكل جيل، وقد بين الله تعالى فضل القرآن الكريم في مواضع كثيرة، منها ما جاء في سورة المائدة “قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم”. (المائدة: 15-16)
ومع أن طائفة من الفلاسفة والمفكرين في كل عصر من العصور يشككون في كل شيء، ويتساءلون عن أصل الوجود ومصدره وغايته، ويختلفون مذاهب شتى بين مؤمن بالله وملحد به، ومؤمن باليوم الآخر ومنكر له، فإن القرآن الكريم مازال يتحدى هؤلاء المشككين في كل عصر، بحجته التي لا تبلى، ونوره الذي يبدد وحشة النفس وشكوك العقل وظلمات الحياة، فيحيل كل ذلك إلى بهجة وسكينة وطمأنينة ويقين، ويوضح مهمة الإنسان المؤمن بالله واليوم الآخر وكتبه ورسله، المتبع لنهج محمد صلى الله عليه وسلم: عمارة الدنيا بالعدل والتقوى والعمل الصالح، وعبر ذلك عمارة الآخرة التي هي خير وأبقى.
ولأن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر سامعيه في ذلك اليوم وفي كل عصر بعده بأن أسمى الروابط بين الناس هي روابط الفكر والقيم السامية، وأسمى القيم على الإطلاق هي الإيمان بالله تعالى وما يبنى عليه من مكارم الأخلاق، فقال:
“اسمعوا قولي واعقلوه: تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه. فلا تظلمن أنفسكم”.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقي خطبته، وبقربه ربيعة بن أمية رضي الله عنه يعيد كلماته للناس ويلقيها بأعلى صوته، كي يسمعها كل من حضر ذلك الوقف التاريخي العظيم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في نهاية خطبته يسأل السامعين:
“اللهم هل بلغت”؟
قال الناس: اللهم نعم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهم فاشهد”.
اليوم، في الربع الثاني من القرن الهجري الخامس عشر، الموافق للربع الأول من القرن الحادي والعشرين للميلاد، يشهد ما يقرب من ألف وخمسمائة مليون إنسان أن محمدا بن عبد الله بن عبد المطلب، رسول الله وخاتم النبيين، وأنه بلغ الرسالة العظيمة من ربه تعالى، وأنه أرشد إلى الخير ودل عليه، وبين الباطل وحث الناس على اجتنابه، وانتصر للإيمان والحرية والعدالة والمساواة ومكارم الأخلاق.
تمام النعمة واكتمال الرسالة
في يوم عرفة من العام العاشر للهجرة، اكتملت الرسالة الإسلامية، وانتهت تماما أيام الشرك في الجزيرة العربية، وزالت معها تقاليد الظلم والإستبداد والثأر والعصبية للعرق أو اللون، وثقافة الإنحياز للقبيلة حتى لو كان أهلها على باطل. ونزل الوحي من عند الله على النبي صلى الله عليه وسلم بعد خطبة عرفة: “اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا”. (المائدة: 3)
تلا النبي عليه الصلاة والسلام هذه الآية الكريمة التي نزلت عليه، ولما سمعها عمر بن الخطاب، الخليفة الراشد الثاني الذي ضرب المثل في العدل والإخلاص في خدمة المواطنين، بكى. فاستغرب الناس موقفه وسألوه: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان. (3)
كانت هناك مؤشرات أخرى تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استكمل أداء المهمة الجليلة التي شرفه الله بها في هذه الدنيا، منها قوله عند وقوفه عند جمرة العقبة: “خذوا عني مناسككم فلعلي لا أحج بعد عامي هذا”. (4) وعمر بن الخطاب رجل جمع بين الذكاء ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم، فأدرك من مضمون الآية الكريمة أن النبي صلى الله عليه وسلم يوشك أن يغادر الدنيا فبكى.
بعد أن ألقى الرسول صلى الله عليه وسلم خطبته الشهيرة في عرفة، صلى بالناس صلاتي الظهر والعصر جمعا، ثم استغرق في الذكر والدعاء والتضرع إلى ربه حتى غربت الشمس. عندئذ أردف معه على ناقته أسامة بن زيد بن حارثة وتوجه إلى مزدلفة، فصلى فيها المغرب والعشاء جمعا، ثم نام فيها إلى الفجر وصلى فيها صلاة الصبح.
من مزدلفة توجه النبي صلى الله عليه وسلم والحجاج معه إلى منى، وإلى منطقة الجمرات تحديدا، فرمى الجمرة الكبرى بسبع حصيات، رمزا ليقظة المسلم وحذره من كيد الشيطان. وفي منى نفسها نحر النبي صلى الله عليه وسلم أضاحيه للعيد إحياء لسنة أبي الأنبياء إبراهيم واحتفالا بفداء ابنه النبي إسماعيل عليهما السلام.
كان النبي صلى الله عليه وسلم مدركا في كل لحظة أنه يحج لنفسه وللمسلمين في عصره وفي كل عصر، ومهتما أشد الإهتمام بتعليم الناس مناسكهم، وبالتيسير على من حج معه وعلى من سيأتي للحج بعده كل عام. ففي عرفة، قال: “هذا الموقف (مشيرا إلى محل وقوفه) وكل عرفة موقف”. وحين وقف على جبل قزح في مزدلفة قال: “هذا الموقف، وكل المزدلفة موقف”. وعندما نحر هديه بمنى قال: “هذا المنحر، وكل منى منحر”. (5)
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين يوم العيد أيضا، وكان مما قاله لهم: “يا أيها الناس أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام. قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام. قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام. قال: فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا”. وأعاد النبي صلى الله عليه وسلم قولته هذه مرارا لتأكيد الأهمية الدينية الكبرى لحرمة النفس البشرية، وحرمة الملكية الفردية للإنسان، وحرمة عرضه وسمعته، ثم رفع رأسه وقال: “اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت”؟ (6)
وقال أيضا “ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم. ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض. ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه”. (7)
كان عبد الله بن عمر بن الخطاب أحد المشاركين في حجة الوداع، وقد تحدث عن سر التسمية فقال: “وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج بها، وقال هذا يوم الحج الأكبر، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اشهد، وودع الناس، فقالوا هذه حجة الوداع”. (8)
لا نص على وريث للحكم أثناء حجة الوداع
يلاحظ الناظر في الروايات الصحيحية لخطب النبي محمد صلى الله عليه وسلم أثناء حجة الوداع، أنها لم تتطرق إلى جوانب الحكم والسلطة السياسية. وهناك رواية واحدة لابن ماجة وابن عساكر ترد فيها عبارة “وأطيعوا أولات أمركم”، لكنها غير مروية في صحيحي البخاري أو صحيح مسلم.
وإذا نظر الباحث في خطبة النبي يوم عرفة، أو خطبته يوم النحر، وأراد أن يلخص ما جاء فيهما حسب الروايات الواردة في الصحيحين وفي سيرة ابن هشام، فإنه يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أكد من جديد ما أولته الرسالة الإسلامية من مكانة عظيمة وحرمة كبيرة للإنسان، رجلا كان أو امرأة: دمه حرام على أي إنسان آخر فلا يجوز العدوان عليه وقتله ظلما أبدا.، وماله وأملاكه الخاصة حرام على أي إنسان آخر لا يجوز أبدا سلبها أومصادرتها أوسرقتها، وعرض الإنسان من الأمور العظيمة عند الله، فلا يجوز لأحد أن يعتدي عليه بالباطل أبدا.
كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالمرأة لأن الرجال قابلون لأن يتأثروا بالتقاليد التي نشأت عبر التاريخ وظلمتها وانتقصت من حقوقها. وحث على الوحدة والأخوة بين المسلمين كافة، بقطع النظر عن أعراقهم وألوانهم. كما أوصى بأركان الإسلام الكبرى مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج، ونهى عن الربا واستغلال فقر الناس وحاجتهم.
ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة، وخطب يوم العيد، وبقي في منى أيام التشريق يعلم الناس دينهم، فإن المصادر التاريخية الموثوقة لم تنقل عنه نصا حول الجوانب السياسية، باستثناء دعوته لطاعة ولاة الأمر بشكل عام.
لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع نص واحد قاله في حجة الوداع حول هوية من يخلفه في الحكم وفي قيادة الدولة الإسلامية بعد وفاته، مع أنه قال للناس أنه قد لا يلقاكم بعد عامه ذاك بعرفة أبدا، وكان يوصي الناس صراحة أن يأخذوا عنه مناسكهم لعلهم لا يلقونه بعد عامه ذاك.
وأكثر المؤرخين يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص بالحكم بعده لأحد من أصحابه وترك الأمر شورى بين المسلمين.
وكما هو معروف، فإن نزاعا حادا على الحكم والسلطة نشب في العقد الهجري الثالث أدى إلى انقسامات في صفوف الأمة الإسلامية، وتسبب بعد ذلك في ظهور عدد من الفرق والطوائف التي ما تزال موجودة حتى اليوم.
إن السياسة والتنافس على الحكم والسلطة من الأمور التي تثير النزاعات والإنقسامات في المجتمعات البشرية على مدى التاريخ كله. وأكثر المسلمين يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم انتصر للشورى والديمقراطية بعدم استخلافه لحاكم من بعده، ليكون الأمر للأمة.
كما يرون أنه بذلك الموقف ميز تمييزا واضحا بين صفته كنبي مرسل من عند الله وحاكم لأول دولة إسلامية على وجه التاريخ، وبين كل الحكام المسلمين الذين جاؤوا من بعده، وهم بشر لا يأتيهم الوحي من عند الله. ذلك أنه لو أنه عين واحدا منهم لربما نالته قداسة خاصة على أساس أن تعيينه جاء من عند النبي صلى الله عليه وسلم.
ويمكن القول أيضا أن المعاني التي أكد عليها النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أكدت طبيعة الإسلام وأبرزت أركانه الأساسية، وبينت أن الحكم، على أهميته للمجتمع المسلم ولكل مجتمع بشري، ليس شرط صحة ولا شرط وجود للدين والتدين.
بمعنى آخر، أنه حتى لو كان المسلم يعيش في مجتمع أغلبيته لا تدين بالإسلام ولا يعتبر الإسلام مرجعية للدولة وقوانينها، فإنه يستطيع أن يؤدي التكاليف الشرعية الرئيسة التي تقوده إلى مرضاة الله وجنته: أن يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت، ويطيع الله في سائر أوامره ونواهيه التي جاءت في القرآن الكريم وبلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينها للناس.
أما إن كان في مجتمع مسلم فإن الأصل في الأشياء، والأمر الموافق لهدي الإسلام، هو أن تحتكم الدولة في دستورها وقوانينها إلى الشريعة الإسلامية العادلة السمحاء، وأن تسود الشورى وتكون السلطة القضائية حرة ومستقلة.
فإن اختلف المسلمون حول الحكم أو تنازعوا، كما حصل في التاريخ ومازال يحصل في هذا العصر للأسف، فإنه يبقى بوسع المسلم دائما أن يؤدي التكاليف الشرعية الرئيسة التي تقوده إلى مرضاة الله وجنته: أن يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت، ويطيع الله في سائر أوامره ونواهيه التي جاءت في القرآن الكريم وبلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينها للناس.
وحتى إن عطل الحاكم تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في البلاد الإسلامية، فإن بوسع الفرد أن يطبقها في الكثير من شؤون حياته، وبوسع المجتمع أن يحترمها ويلتزم بها ويطبقها في الكثير من وجوه الحياة العامة. هذا مع التأكيد مرة أخرى على أن نصوص الشريعة الإسلامية توجب على الفرد والمجتمع السعي لأن تلتزم الدولة في المجتمعات الإسلامية بالمرجعية الإسلامية في نظام الحكم وفي سياساتها في المجالات المختلفة، والحرص على ألا تطبق الدولة سياسات أو تعتمد قوانين معارضة لتعاليم الإسلام.
إنها الطبيعة السهلة السمحة للإسلام، وهي التي تجعله دينا للفرد وللمجتمع وللأمة، وتجعله قابلا للتطبيق في كل الظروف وكل الأزمنة، ولا ترهنه للسلطة السياسية، بالرغم من الأهمية الدينية للسلطة السياسية العادلة وللوحدة السياسية للأمة.
وبهذا التوجه، يُبقي الإسلام أمام الأمة وأمام المجتمع دائما فرصة التحرر الروحي من السلطات الظالمة المستبدة في كل وقت. ويُبقي للمجتمع والأمة أيضا فرصة وواجب السعي لإقامة الحكم السياسي المبني على تعاليم الإسلام، أي على الشورى والعدل واحترام حقوق الإنسان، وذلك مهما كانت سطوة المستبدين المحليين، أو الغزاة الأجانب المحتلين، في أي مرحلة من مراحل التاريخ.
هذه الطبيعة السهلة السمحة والتحررية للإسلام، هي التي تجعله دينا للفرد وللمجتمع وللأمة، وتجعله قابلا للتطبيق في كل الظروف وكل الأزمنة. ولعل هذه الرؤية تساعد على وضع الأمور في نصابها عندما يتعلق الأمر بمناقشة دور الإسلام في المجتمع وعلاقته بالدولة والسياسة، وذلك من خلال تقديم مسؤولية المجتمع ومسؤولية الأمة في رعاية الدين على مسؤولية الحكومة، وتنبيه بعض المسلمين الذين يتطرفون ويجعلون السياسة والحكم أعظم شؤون الدين أنهم يخطئون في فهم جوهر الرسالة، ويضيقون أمرا عظيما واسعا، ويرهنون الدين من غير ضرورة لنقطة ضعف رئيسية عند الإنسان منذ قديم الزمان: شهوة الحكم والميل الفطري للتسلط والإستبداد.
ومن الواضح أن الأمة إذا قامت بمسؤوليتها في رعاية الدين وتمثله في حياتها، كأفراد وكجماعة، فإن نظامها السياسي سيعبر حتما عن التزامها الديني هذا، خاصة إذا كانت الحكومة القائمة مختارة من قبل الشعب وليست مفروضة بالقوة من قبل طغمة متسلطة أو قوة محتلة.
طواف الوداع
قبل الإفاضة إلى المسجد الحرام من جديد والطواف بالكعبة المشرفة تحلل النبي صلى الله عليه وسلم من إحرامه وتطيب. ثم أقام بقية أيام التشريق، وهي يوم العيد واليومان اللاحقان له في منى يعلم الناس دينهم. وفي اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، نفر النبي صلى الله عليه وسلم من منى إلى منطقة الأبطح في مكة، وهناك “صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به”(9) وذاك هو طواف الوداع.
ودع خاتم النبيين بيت الله الحرام بالطواف والذكر والعبادة، وتلك سنة كريمة سنها للحجاج من بعده في كل عصر، ألا يغادروا المدينة المقدسة حتى يطوفوا طواف الوداع حول الكعبة المشرفة.
وبعد ذلك تحرك موكب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم عائدا إلى المدينة المنورة، وكان وداعه لمكة وداعا حقيقيا بكل معاني الكلمة، فالنبي الكريم الذي نزل عليه الوحي وبلغه باكتمال الرسالة وتمام النعمة، كان يرى مكة للمرة الأخيرة في حياته.
(1) ـ هذه الفقرة والفقرات الآتية من خطبة الوداع من الرواية التي أوردها ابن هشام في السيرة النبوية. الجزء الرابع. ص 185-186
(2) ـ في صحيح مسلم لا توجد إشارة للسنة، والنص عنده كما يلي: قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله.
(3) ـ الحافظ بن كثير: البداية والنهاية. بيروت: مكتبة المعارف، 1988. الطبعة السادسة. الجزء الخامس. ص 215
(4) ـ المصدر السابق، والحديث صحيح رواه مسلم.
(5) ـ سيرة ابن هشام. الجزء الرابع. ص 187
(6) ـ صحيح البخاري. الجزء الأول. ص 300
(7) ـ صحيح البخاري. الجزء الثالث. ص 84
(8) ـ صحيح البخاري. الجزء الأول. ص 300
(9) ـ المصدر السابق. ص 303، وأيضا: الرحيق المختوم، ص 342
0 comments on “الفصل السادس عشر من كتاب الدكتور محمد الهاشمي الحامدي: السيرة النبوية للقرية العالمية”